الصادق جاد المولى
العلم في أولهِ حجر وفي آخرهِ قمر والأمم تُقاسُ بما ترفعه من أردية لا بما تبنيه من سور؛ ومن ينظر اليوم في المشهد السعودي لا يفتشُ في الصحراء إنما يرفع رأسه نحو المدار، فبينما تنشغل بعض الدول بترميم جدرانها الداخلية تشتغل المملكة ببناء عقول تتطلع إلى ما بعد الغلاف الجوي، وفي هذا السياق لم تأت مسابقة «الفضاء مداك» كإحدى تلك الفعاليات التي تُقام ثم تُنسى، ولا كمشروع يحضر في نشرات الأخبار ثم يغيب في دفاتر النسيان، وإنما جاءت كدرسٍ غير اعتيادي يبدأ من المدرسة وينتهي في أكبر منصة ابتكارية وبحثية في العالم، مرورًا بمحطات الوعي والمعرفة والاستثمار، فالمسابقة التي دخلها ثمانون ألف طالب وطالبة من مختلف الدول العربية ليس طلبًا لجائزة، لأن شيئًا في أعماقهم قال إن المعمل يمكن أن يُسافر، وأن الفكرة قد تخلع عباءتها وتلبس بزة الفضاء، ومنها اختيرت عشر تجارب وصعدت خلال الأيام الماضية إلى المهمة AX-4، تدور الآن في مدار الأرض كما تدور الأحلام حين تلتقي بالمنهج.
ولقد بدأت المسابقة في ظاهرها كأنها برنامج تعليمي مبتكرٌ للأطفال، ولكن في باطنها كانت أكثر من منصة اقتصادية ومختبر سيادي، ومرآة لوعي الدولة بما تعنيه الكلمة حين تُقال في مجلس الوزراء: «نحن نستثمر في المستقبل» فاقتصاد الفضاء الذي لا يزال يحبو على أرض الواقع يُتوقع أن يبلغ حجمه أكثر من ثلاثة تريليونات دولار خلال العقود القادمة، والأمم التي لا تحجز مقعدًا لها في هذه الرحلة لن تكون على الأرض فحسب تحت عباءة استهلاك لا تصنعه ولا تتحكم في مساره، ولأن التعليم الجاد لا يسأل الطفل عن المعلومة فقط، بل يدفعه ليشكّلها ويختبرها ويخضعها للسؤال، جاءت «مداك» لا لتقول ماذا نعرف عن الفضاء، إنما لتسأل: ماذا سنضيف إليه؟
وفي عالم تتقدم فيه الصين بمدارسها التقنية، وأمريكا بمراكزها البحثية، تفتح السعودية مدرسة من نوع مختلف لا يشترط فيها الحضور، وذلك لأن الحصة قد تكون على ارتفاع أربعمئة كيلومتر من سطح الأرض، ولا يحتاج الطالب إلى دفتر لأن التجربة قد تُسجّل في ذاكرة محطة فضائية لا تنام، وحين يعود الطالب إلى فصله لا يعود كما خرج وإنما يرجع محمّلًا بإجابة لسؤال لم يُطرح بعد: كيف نعيد تعريف التعليم؟ وكيف نصنع اقتصادًا من معادلة فيزياء؟ وكيف نربط بين السبورة ومنصة الإطلاق؟ الأمم التي تُتقن صناعة الذاكرة الجماعية، تبدأ من لحظة كهذه يبدو فيها كل شيء عاديًا: طلاب يرسلون تجاربهم، ومسابقة تُبثّ في نشرة الأخبار، لكن تحت هذا الغلاف يُعاد ترتيب العلاقة بين الجيل والمستقبل.
ويعلم المعلم الذي يشرح درس الجاذبية اليوم أن في مكان ما من المدار تجربة أحد طلابه تُختبر، وهذا المعنى ليس ترفًا علميًا هو ركيزة سيادية؛ فأن تمتلك حلمك خير من أن تستهلك أحلام الآخرين، لذا لم تكن «مداك» لحظة عابرة وإنما لحظة مفصلية في عقل التعليم العربي تقول إن من حق الطفل العربي أن يرى اسمه مكتوبًا على لوحة إلكترونية في مركبة فضائية، وأن فكرة الابتكار لم تعد وقفًا على الجغرافيا ولا على اللغات الأجنبية.
وهكذا ستعود المسابقة إلى الأرض ليس كما ذهبت، ستعود وقد خلخلت مفهوم التعليم، وزرعت في عقول الأجيال سؤالًا مختلفًا: ماذا يمكنني أن أكون حين لا يكون سقف المدرسة هو الحد الأعلى؟ في الصحف قد تُكتب هذه القصة في صفحة من صفحات المنجزات، لكن في وجدان المعلم والطالب وولي الأمر هي حجر أساس في هندسة جيلٍ يرى في الفضاء امتدادًا للدرس، وفي العلم طريقًا لا ينتهي بالسؤال، ذلك هو الفرق بين من يبني صفًا ومن يفتح أفقًا، وبين من يعلّم الحروف ومن يكتب بها مجرة جديدة، وفي كل ذلك تبقى المملكة ممثلةً في وكالة الفضاء السعودية حين تريد قادرة على أن تجعل من الحصة المدرسية تجربة تدور في مدارها الخاص، وتدور معها أمة بأكملها نحو مستقبل يُصاغ بعقل أبنائها.