عبدالرحمن سالم عيد الحربي
شهدت العديد من الأنظمة التعليمية تحولًا جذريا في هيكلتها الزمنية، حيث استبدلت نظام الفصلين التقليدي بنظام الثلاثة فصول دراسية، سعياً لتحقيق كفاءة أكاديمية أعلى. لكن هذا التغيير، رغم ما يُحْمَد له من نوايا تطويرية، حمل معه سلسلة من التحديات الاقتصادية والمناخية والبيئية والنفسية والاجتماعية التي تُثير تساؤلاتٍ حول مدى ملاءمتها للواقع.
على الصعيد الاقتصادي.. تبرز أعباء مالية متزايدة على إدارات التعليم والأسر معًا. فالمدارس التي تعتمد النظام الثلاثي تُجبر على تكبد نفقات تشغيلية أعلى، بدءًا من تكرار عمليات الصيانة الدورية للمباني، ومرورًا بزيادة استهلاك الطاقة الكهربائية لتشغيل الفصول في أوقات قد لا تكون ملائمةً مناخيًّا. أما الأسر، وخاصةً تلك ذات الدخل المحدود، فتواجه ضغطًا ماليًّا متكررًا لتأمين المستلزمات المدرسية من أدوات وزي موحد، ناهيكم عن تكاليف النقل التي ترتفع مع كثرة فترات العودة إلى المدرسة، خاصةً في المناطق التي تفتقر إلى شبكة نقل عام فعّالة.
ولا تقل التحديات المناخية خطورةً عن سابقتها، فالنظام الثلاثي قد يُجبر الطلاب على الدراسة في فترات تتزامن مع ظروف جوية قاسية. ففي المناطق الحارة مثل دول الخليج، قد يُصادف أحد الفصول ذروةَ الحر، مما يزيد من اعتماد المدارس على أجهزة التبريد، ويُعرض الطلاب للإرهاق الحراري. أيضاً.. المناطق المعرضة للأمطار أو العواصف للدراسة.
أما على المستوى البيئي والمُدن الكبيرة، فإن تكرار بدايات الفصول الدراسية يُسهم بشكل غير مباشر في تفاقم مشكلات التلوث وازدحام الطرق. فكلما زادت مرات عودة الطلاب إلى المدارس، ارتفعت الانبعاثات الكربونية الناتجة عن حركة السيارات الخاصة التي تنقلهم، خاصةً في المدن الكبيرة التي تعاني أساسًا من تلوث هوائي مزمن. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فتشغيل المرافق المدرسية ثلاث مرات سنوياً - بدلًا من مرتين - يزيد من استهلاك الطاقة الكهربائية. كما أن تزامن عودة الطلاب مع أوقات الذروة اليومية يُضاعف من الاختناقات المرورية، ويُرهق البنية التحتية للنقل، مما ينعكس سلبًا على جودة الحياة في المناطق المكتظة.
لكن أخطرَ ما يُلفت النظر في هذا النظام هو (الإرهاق النفسي) الذي يُصيب الطلاب، فالعام الدراسي ذو الثلاثة فصول - رغم كونه يحافظ على المدة الزمنية الإجمالية نفسها - يُقسَّم إلى فتراتٍ أقصر مع إجازاتٍ متقطعةٍ لا تكفي لاستعادة النشاط الذهني. ففي النظام الثنائي، كان الطالب يحظى بفترات راحة أطول بين الفصلين، تسمح له بالابتعاد عن ضغوط الامتحانات والمهام اليومية، والانخراط في أنشطة ترفيهية أو تعلُّم مهارات جديدة، مما يساهم في تجديد طاقته النفسية. أما في النظام الثلاثي، فإن تكرار الاختبارات والواجبات على مدار العام، مع فترات استراحة قصيرة، يحوِّل الحياة الدراسية إلى سباقٍ متواصلٍ ضد الزمن، حيث يُصبح التركيز على «إنهاء المقرر» هو الهم الوحيد، على حساب الاستيعاب العميق أو التمتع بطفولةٍ متوازنة.
هذا الإرهاق النفسي لا يقتصر على الطلاب فحسب، بل يمتد إلى المعلمين وأولياء الأمور، الذين يُجبرون على التعامل مع وتيرةٍ أكاديميةٍ سريعةٍ تزيد من توتر الأجواء التعليمية. ففي ظل غياب مساحات كافية للتنفس، تتراجع الحماسة للتعلم، وتتحول المدرسة من مكانٍ للاستكشاف والإبداع إلى ساحةٍ للضغوط اليومية التي ترهق الروح قبل العقل؟!.
إضافة إلى ذلك.. يُهمل النظام الثلاثي (فرصًا اجتماعية واقتصادية جوهرية) كان يوفرها النظام الثنائي. فالإجازات الطويلة بين الفصلين كانت تمنح الطلاب - وخاصةً الشباب في المراحل الجامعية - فرصةً للانخراط في أعمال مؤقتة أو تدريبات تطوعية، تساعدهم على اكتساب مهارات عملية، وتعزيز مشاركتهم المجتمعية، بل وتوفير دخلٍ إضافيٍ يدعم أسرهم أو يُسهم في تنمية الاقتصاد المحلي عبر زيادة الإنفاق الاستهلاكي. أما في النظام الثلاثي، فإن تقطيع الإجازات إلى فترات قصيرة يحرمهم من هذه الفرص، ويُقلص مساحةَ التفاعل مع المجتمع، مما يُضعف الروابط الاجتماعية ويُحد من اكتساب الخبرات الحياتية خارج جدران الفصل الدراسي.
كما أن الإجازات الطويلة في النظام الثنائي كانت تتيح لإدارات التعليم (فرصةً حيويةً لصيانة المرافق المدرسية) وتجهيزها بشكلٍ كافٍ. فالفترة الزمنية الواسعة بين الفصلين تسمح بإصلاح البنية التحتية، وتحديث الفصول دون ضغوط التوقيتات الضيقة. أما في النظام الثلاثي، فإن الفترات الفاصلة بين الفصول تصبح قصيرةً لدرجة تعوق إجراء الصيانة الشاملة، مما يؤدي إلى تراكم الأعطال، أو تأجيل الإصلاحات، وهو ما ينعكس سلبًا على سلامة الطلاب وجودة البيئة التعليمية.
علاوةً على ما سبق، فإن (تمديد العام الدراسي عبر ثلاثة فصول) يزيد من فترات الخطر المتعلقة بتنقل الطلاب يوميًّا. فمع استمرارية الدراسة لفترات أطول على مدار العام، تتعرض الأسر لخطر متزايد نتيجة كثرة تنقل الطلاب في أوقات قد تكون غير آمنة، كالساعات المبكرة أو المتأخرة، أو خلال فصول الشتاء الممطرة أو الصيف الحارقة، حيث تزداد احتمالية الحوادث المرورية. ففي النظام الثنائي، كانت الإجازات الطويلة تُقلص فترات التنقل الخطرة، أما في النظام الثلاثي، فإن توزيع الفصول على مدار العام يعني تعرض الطلاب لظروف الطقس المتقلبة وازدحام الطرق لفتراتٍ أطول، مما يرفع معدلات المخاطر الصحية والسلامة العامة.
ولعلَّ الأكثر إثارةً للقلق هو أن (تعقيد هيكلية النظام الثلاثي) وتمدده الزمني يضاعفان من التحديات اللوجستية للتنقل. فالفصول المتعددة تتطلب تنسيقا دقيقًا مع جداول النقل المدرسي ووسائل المواصلات العامة، التي غالبًا ما تعجز عن استيعاب الذروات المتكررة. هذا التكرار لا يزيد فقط من احتمالية التعرض للحوادث، بل يُجبر العديد من الأسر على الاعتماد على سيارات خاصة لفترات أطول، مما يُعرض الطلاب - خاصةً في المناطق الريفية أو ذات الطرق غير المُعبدة - لمخاطر الطرق الوعرة أو انعدام الإضاءة الكافية. وهكذا، يصبح العام الدراسي الطويل ساحةً مُستمرةً للقلق اليومي على سلامة الأبناء.
قد يرى مؤيدو النظام الثلاثي أن فوائده الأكاديمية - مثل تقليل الفاقد التعليمي عبر إجازات أقصر - تُبرر تطبيقه، لكن هذه الحُجة تتهاوى أمام الواقع العملي.
في الختام.. لا يُنكر أن الأنظمة التعليمية بحاجة إلى تجديد مستمر، لكن التغيير يجب ألا يُنفذ بمعزل عن السياق الشامل للمجتمع. فالنظام الثلاثي، رغم إيجابياته النظرية ، يحتاج إلى تقييم دقيق لتكاليفه البيئية والاقتصادية والنفسية والاجتماعية، إلى جانب الحفاظ على الإجازات الطويلة التي تظل رافدًا للتنمية البشرية والاقتصادية. فبدون ذلك، قد نصبح ربما أمام نموذجٍ تعليميٍ يربح معركةً أكاديميةً صغيرة، لكنه يخسر في المقابل الكثير!!؟.