د. علي القحيص
الإبداع والفن حالة إنسانية مرتبطة ومتناغمة بحياة البشر منذ بدء الخليقة، كحالة إنسانية مندمجة لا يمكن فصلها عن دولاب صيرورة الحياة.
والفن العربي مرّ بعدة مراحل ومدارس وازدهار وانتكاسات، بسبب الحروب والنكبات والهزائم والأزمات.
حاله حال الوضع العربي العام هذه الأيام.
ومن المطربين من وقف إلى جانب نظام ضد نظام، ومع زعيم ضد رئيس، ومنهم من اتهم بالخيانة والانتهازية والتملق، وقلة منهم ثبت ولم يهتز أو ينحرف وأثبت وطنيته وعروبته بصلابة ووضوح، وأصبح صوته هوية بلده وسلاحا ضد العدو، وعلى رأسهم المطربة العربية اللبنانية الكبيرة (فيروز)، حيث صدح صوتها للعواصم العربية وإدانة الاحتلال والغزاة والطغاة، قبل أن تختلط الأمور وتضيع القيم ويختلط الحابل بالنابل، ويلف الحبل على الغارب بلا قيود، وصنف الخائن أكثر وطنية من المناضل الأمين الصادق، والعروبي عنصري (قومجي)!
والمسلم إرهابي متطرف!
وفيما مضى من الزمن لم نعرف ديانة المطربة فيروز وطائفتها ومذهبها، ولكن نسمع صوتها الشجي العروبي الأصيل العذب المؤثر، بدون شعوبية أو طائفية أو عنصرية، حين تغني للسماء والأرض والماء والوطن، وتتغزل بالعواصم العربية (بيروت ودمشق وبغداد والقدس)، ومدن أخرى عربية دون أن تذكر اسم رئيس أو زعيم، ولم تمدح قائدا أبدا، أو تصنف على دين أو طائفة أو مذهب أو تيار.
وحين انفصلت عن زوجها عاصي الرحباني (1923 - 1986)، ولحن لها ولدها زياد الرحباني (1956 - 2025)، عدة أغنيات من ألحانه.
أذكر كتبت مقالا قبل 20 عاما، بعنوان خذوا «فيروزكم واتروكوا فيروزنا» أقصد الإعجاب بأغانيها القديمة الجديدة، التي نسمعها ونتذوقها، بل (ذات طعم مختلف) لقوة تأثيرها ومعناها وعمق لحنها وعذوبة صوتها الجميل!
وبعد رحيل ابنها زياد الرحباني، قبل عدة أسابيع، كتب الكثير من النقاد والكتاب والأصدقاء والزملاء، ما بين أن يمدحه ووصفه بالموسيقي العملاق المبدع، والآخرين الأكثر عددا وقسوة وحدة في الهجوم عليه، كانوا يشمتون ويتشفون به ويصفونه بـ(ملحد) وليس له دين أو مبدأ، وهذا لا يهمنا، ولكن هناك من شكك بشرعية ولادته لأبويه، وهناك من وصفه بأنه عديم الأخلاق والتربية، لأنه تحدث عن خلافات فيروز وأبيه عاصي في المحطات التلفزيونية علنا، بكل جرأة وصراحة وقلة أدب، وهذه من أسرار عائلية، وللبيوت أسرارها!
ومنهم من اتهمه بالخيانة لوقوفه الطائفي المعلن مع (حزب الله) رغم أنه مسيحي أو (ملحد) كما وصفوه!
هنا أنا أقف ما بين هذا وذاك، مع التسليم بأن لا تطلب من صاحب الموهبة والفنان أن يكون مثالياً وعلى خلق عالٍ ومؤدب ومتوازن ومستقيم، لأن فنه وإبداعه يشفع له وتمرده، ولكنه أن يخالف ويختلف مع (أمه) العملاقة فيروز هذا غير مبرر أبدا مهما تكن الخلافات، والطامة الكبرى يمجد (حزب الله) ويقف معهم ضد بلده، بل يتهجم على المملكة وقادتها، بحجة أنه مع حزب الله الإرهابي المجرم!
فأنا أقول ذهب زياد غير مأسوفٍ عليه، ولا بارك الله بفنه وغنائه وشعره وألحانه، ذلك المومياء الموتور القلق المضطرب عقلياً ونفسياً وأخلاقياً وطائفياً، الذي بسلوكه المشين وبتصرفاته المنحرفة شوّه سمعة الرحابنة، وأساء لقامة فيروز الكبيرة ومسيرتها، التي لم يتعلم منها الوطنية والعروبة والانضباط والاتزان والثبات، فيبدو أنه كما قيل وقال، لأن جيناته وسلوكه وتصرفاته، لا تشبه أخلاق جارة القمر وضوئها وبريقها وعفتها وإبداعها ووطنيتها وعروبتها، التي سوف تبقى هوية وطنية لا يشبهها أحد، ورسالة صوت قوي تغني لبلدها وأرضها الطيبة التي أنجبتها، فسلاما عليها حين تصمت وحين تغني!