د. عبدالحليم موسى
أبحرت عبر كتابي الذي انتهيت من مسودته الأسبوع الماضي؛ في الإعلام والذكاء الاصطناعي؛ مما شكل لديّ وعياً معرفياً باستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي في الخير والشر، وأيقنت أننا مقبلون على عصر ستختلط فيه الأوراق القيمية، وتشوه فيه صورة الآخر بضغط زر على أدوات الذكاء الاصطناعي.
في هذا العصر المتلاطم الأمواج.. نعيش فيها الحقيقة بواقعها؛ الذي تنتجه خوارزميات مُدربة على محاكاة المصداقية، وتقف فيه الإنسانية على عتبة أزمة معرفية وأخلاقية معقدة، فحين تُستخدم أدوات هذا الذكاء في اغتيال الصورة الإنسانية، ندخل زمناً جديداً من التشويه الهادئ والابتزاز الناعم.. زمناً تنتهك فيه الروح الإنسانية بفعل سلوكياتٍ بعيداً كل البعد عنها، وكلامٍ لم تقله، وأصوات لم تصدر عنك، وسياقات لم توجد فيها أصلاً؛ فهذه ظاهرة ليست مجرد انحراف في الاستخدام، بل تعبير عن تحوّل جوهري في طبيعة السيطرة الرمزية في العصر الرقمي؛ تلك السيطرة الرقمية التي لم تعد قائمة على امتلاك الحقيقة، بل على إنتاج «وهم الحقيقة»؛ ذلك الوهم الذي تصنعه تقنيات التزييف العميق (Deepfake) والمحاكاة الصوتية والنصية، والذي يحل محل الواقع في أعين المتلقين، خصوصاً حين يغيب الوعي الرقمي وتضعف آليات التحقق الجماعي.
لا يتحدث هذا المقال عن خطر نظري، بل عن واقع واجهته شخصياً؛ فقبل مدة قصيرة، تواصل معي أحد المتابعين على منصة (إكس)، عارضاً خدمات زيادة المتابعين مقابل مبلغ مالي وحين رفضت، لم يكتف بالانصراف، بل هدد بصيغة فجّة: «سأستخدم ضدك حملة تشهير».. لم يكن التهديد مجرد كلمات عابرة، بل يحمل يقيناً تقنياً بأن أدوات التشويه متاحة، وأن الجماهير، في كثير من الأحيان، لن تُكلف نفسها عناء التحقق وسيصدق من يرى تلك الصور أنك «أنت.. أنت» بدليل الإثبات المرفق.
سأكتب مقالاً لاحقاً حول استخدام حملات التشهير ضد الأشخاص حتى تساهم في توعية العقل الجمعي للقراء.. وقد دفعتني هذه الحادثة إلى التواصل مع أحد طلابي المختصين في الأمن الرقمي، لا للرد التقني، بل لفهم البنية العميقة لهذا التهديد؛ وما وجدته أن هذه الأفعال ليست حالات فردية، بل مؤشر على أزمة في الضمير الإنساني، وأزمة قيمية تنشأ عندما تُختزل الأخلاق في مهارات، والقدرة على صناعة صورة بديلة، وفي قلب هذه المعضلة يكمن سؤال فلسفي عميق: ما الذي يجعل الآخر هو الآخر في الفضاء الرقمي؟! إنه ليس حضوره المادي، ولا حتى فعله، بل صورته كما تُرى وتُبث وتُعاد صياغتها بلا إذن أو سياق.. وهنا يصبح الإنسان أسيراً لصورة لا يملكها، وعبارة لم يقلها، وتسجيل وُلد من رحم خوارزميات لا تملك ضميراً إنسانياً حينما يمكن أن يراجع ذاته بعد ذهاب السكرة.
يقول المفكر الفرنسي جان بودريار»إننا نعيش في مجتمع المحاكاة، حيث تحل النسخة محل الأصل، ويُصنع الواقع لا ليعكس الحقيقة، بل ليؤدي وظيفة التأثير».. في ضوء هذا التصور، يصبح الذكاء الاصطناعي أداة لإنتاج الآخر، لا كما هو، بل كما يريد الفاعل الخفي أن يظهره، في شكل رمزي قابل للاستخدام، للسخرية، أو الابتزاز، أو تشويه الصورة.. لقد سقط وهم حياد التقنية؛ فالذكاء الاصطناعي ليس كياناً مستقلاً يعمل بمعزل عن القيم، بل هو امتداد لإرادة المُبرمج ومصالح مستخدميه، وما لم يُطوّق بسياج من الأخلاق والقانون، فإن أدواته ستصبح أقرب إلى أسلحة رمزية تدمّر القيم الإنسانية المعنوية قبل المادية، والوجود الرمزي قبل الجسدي.
تقول البروفيسورة شوشانا زوبوف: «لقد دخلنا عصراً لا تسرق فيه بياناتنا فقط، بل يُعاد تشكيلنا عبرها.. هذه المقولة تؤكد حقيقة واقعنا اليوم، حينما تصبح الصورة المزيفة، أو الصوت المحاكى، أداة لإنتاج نسخة مزيفة من الذات، تستخدم ضد صاحبها في لحظة ابتزاز أو تشهير، تقود لاغتيال الشخصية.. إن المجتمعات المعاصرة بحاجة إلى إعادة التفكير في منظومة التشريع، لا من باب العقوبة فقط، بل من باب فلسفة الحماية، فالحق في سلامة الصورة؛ يجب أن يُدرج ضمن الحقوق الأساسية، تماماً كما نطالب بحق الحياة، وحرية الفكر، وحرمة الجسد.
على المستوى الثقافي، فإنه ينبغي على المؤسسات ترسيخ وعي نقدي رقمي لدى الجمهور والذي بات ضرورة وجودية، لا ترفاً معرفياً، فالمجتمع الذي لا يُحسن التمييز بين المزيف والحقيقي، سيسقط في فخاخ الخوارزميات، وسينقلب إلى آلة لا وعي تستهلك ما يُبث، وتُعيد إنتاجه دون مقاومة.
في خاتمة مطاف هذا المقال، أطرح سؤالاً مركزياً: ماذا يفعل الذكاء الاصطناعي بنا، وماذا يكشف عنّا؟! فهذه الظواهر لا تعبر عن فساد التقنية، بقدر ما تعري هشاشة الضمير الإنساني حين يُمنح أدوات لا يملك نُضج استخدامها.. وكما يقول هايدغر: «إن جوهر التقنية ليس تقنياً، بل وجودي».. إنها تكشف حقيقة علاقتنا بالآخر، وبأنفسنا، وبالمعنى ذاته.