د. سفران بن سفر المقاطي
على صخور شبه الجزيرة العربية الصامتة والصامدة، نُقشت حكايات حضارات عريقة، لتتحول النقوش الحجرية من مجرد تحف أثرية إلى سجلات خالدة تروي قصصاً من أعماق التاريخ. وفي سياق التراث السعودي، تبرز هذه النقوش كعنصر جوهري يعكس الثراء الحضاري للمملكة، حيث تحمل في طياتها رموزاً وكتابات تعود إلى حضارات متنوعة كالثمودية والنبطية واللحيانية والسبئية. تتجاوز أهميتها كونها زخارف فنية لتصبح مصدراً أولياً لا غنى عنه لفهم التطورات الاجتماعية والاقتصادية والدينية في منطقة كانت ممراً تجارياً حيوياً يربط الشرق بالغرب. من خلال دراسة هذه الشواهد، يمكننا استنباط كيف شكلت اللغة والكتابة أساساً للهوية الجماعية، مما يجعلها جزءاً لا يتجزأ من التراث الوطني الذي يعزز الوعي بالماضي لصياغة مستقبل ثقافي واعد للمملكة.
تُعدّ منطقة العُلا، وتحديداً مدائن صالح (الحِجر)، من أبرز المواقع التي تحتضن كنزاً من النقوش النبطية التي تعود إلى الفترة الممتدة من القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن الأول الميلادي. هذه النقوش، المحفورة بإتقان على واجهات المقابر الصخرية الشاهقة والصخور الطبيعية، مكتوبة باللغة النبطية التي تمثل حلقة وصل بين الآرامية والعربية. ومن أبرز الأمثلة تلك التي توثق تفاصيل عن ملاك القبور وممتلكاتهم، مما يكشف عن نظام اجتماعي هرمي قائم على الملكية الخاصة والوراثة. ويكشف تحليل محتواها عن أهميتها التاريخية كمصدر لفهم التجارة والدين؛ فبعض النقوش تذكر أسماء آلهة نبطية مثل «ذو الشرى»، وتسرد تفاصيل عن الطقوس الجنائزية، مما يشير إلى منظومة اجتماعية ثقافية متأثرة بالحضارات المجاورة. كما تعكس هذه الكتابات حياة اجتماعية وتجارية نشطة، حيث كانت مدائن صالح مركزاً حيوياً على طريق اللبان، تزدهر فيه العلاقات الأسرية والتجارية. ثقافياً، تبرز النقوش تنوعاً في الأساليب الفنية، مع رموز حيوانية ونباتية تعبر عن الخصوبة والحماية، في تفاعل فريد مع البيئة الصحراوية.
وعلى النقيض من التعقيد النبطي في العُلا، تقدم نقوش الطائف الواقعة غرب المملكة، صورة مختلفة من التراث الحجري، تعود إلى فترات متنوعة تشمل العصر الثمودي والعصور الإسلامية المبكرة. والنقوش الموجودة في أوديتها وجبالها، مثل وادي الطائف وجبل الشفا، تحتوي على كتابات ثمودية تتضمن أسماء أشخاص وطقوس وأماكن محلية لها أبعادها الاجتماعية والثقافية والدينية. وتتميز هذه النقوش، المحفورة على الصخور البركانية، بأسلوبها البسيط الذي يعكس نمط حياة عربي أصيل يعتمد على الرعي والتنقل، مع رسوم للجمال ومشاهد الصيد. المقارنة بين نقوش الموقعين تظهر تبايناً واضحاً؛ فبينما تمتاز نقوش المدائن بتعقيدها وتأثيراتها الخارجية، تركز نقوش الطائف على الجانب الشخصي والديني بلغة ثمودية تُعد من أقدم أشكال الكتابة العربية. كما يظهر تأثير البيئة بوضوح، حيث ساهم المناخ الجبلي المعتدل في الطائف في الحفاظ على النقوش بشكل أفضل نسبياً، وإن كان التوسع العمراني الحديث يمثل اليوم تهديداً لهذه المواقع التاريخية.
ويمتد هذا الإرث الحجري ليشمل مناطق أخرى تعزز من شمولية الصورة التاريخية للمملكة. ففي منطقة نجران جنوباً، تقف النقوش في موقع الأخدود الأثري شاهدة على حضارات جنوبية قديمة، سبئية وحميرية، مكتوبة بالخط المسند الجنوبي. تصف هذه النقوش المعارك والتحالفات السياسية، وتكشف عن مجتمع زراعي متقدم يعتمد على السدود والري، مع رموز دينية تعبر عن عبادة آلهة مثل «ألمقه»، مما يعكس تفاعلاً ثقافياً عميقاً مع حضارات الجزيرة العربية القديمة. أما في منطقة حائل شمالاً، فتكشف النقوش في جبة والشويمس عن طبقة أثرية غنية بالكتابات الثمودية والرسوم الصخرية التي تعود لآلاف السنين، وتصف رحلات تجارية وصيد، مع رسوم للحيوانات تعكس حياة متكيفة مع الصحراء. وتتميز هذه النقوش بأسلوبها الفني الأكثر تجريداً، الذي يجمع بين الكتابة والرسم. وفي الجوف شمالاً أيضاً، وتحديداً في دومة الجندل، تظهر نقوش نبطية وثمودية على جدران القلعة القديمة، تذكر أسماء ملوك وتجار، وتعكس دور المنطقة كمركز تجاري وعسكري مهم، مما يؤكد على التنوع الإقليمي الثري للنقوش في المملكة.
ولا تقتصر قيمة هذه النقوش على بعدها التاريخي، بل تمتد لتشكل حجر الزاوية في فهم تطور اللغة العربية. فالنقوش النبطية في العُلا تظهر مرحلة انتقالية من الآرامية، مع ظهور حروف عربية واضحة، بينما تعكس النقوش الثمودية في الطائف وحائل لهجات عربية شمالية قديمة، تساهم في دراسة الصوتيات والنحو. أما خط المسند في نجران، فيبرز التنوع اللهجي للغة في جنوب الجزيرة. وفي العصر الحديث، تحولت هذه الشواهد الصامتة إلى رموز حية للهوية الوطنية السعودية، حيث أصبحت مصدر إلهام للفنون والتعليم، وتستخدمها المتاحف مثل متحف العُلا لربط الماضي بالحاضر، وتعزيز الوعي بقيم الأسلاف والتفاعل مع البيئة. إن فهم هذا الإرث يعتمد على مصادر موثوقة وجهود بحثية متواصلة. فقد وثقت هيئة التراث في السعودية آلاف النقوش، وساهم باحثون سعوديون ودوليون في تحليلها عبر عقود، بدءاً من دراسات المستشرقين الأوائل، مروراً بالبعثات الفرنسية السعودية في مدائن صالح خلال الثمانينيات، وصولاً إلى الدراسات الحديثة التي تستخدم تقنيات متطورة كالمسح ثلاثي الأبعاد والتصوير الطيفي، مما يسمح بقراءة دقيقة للسياقات اللغوية والرمزية. هذا النهج العلمي متعدد التخصصات، الذي يجمع بين علم الآثار واللغويات والأنثروبولوجيا، يبرز كيف تحولت النقوش من أدوات توثيق قديمة إلى رموز هوية وطنية معاصرة.
وفي الختام، إن التحف والنقوش الحجرية المنتشرة في مناطق المدائن والطائف ونجران وحائل والجوف تشكل محوراً أساسياً لفهم تاريخ وتراث شبه الجزيرة العربية. فهذه النقوش لا تقتصر أهميتها على توثيق لحظات تاريخية منفصلة، بل تحمل في طياتها تطور اللغة العربية، وتداخل الثقافات، واستمرارية العادات والتقاليد عبر العصور. من خلال تحليل محتواها اللغوي والدلالي والفني، يتبين لنا أنها تعكس صورة مجتمع متعدد الجوانب؛ مجتمع تفاعلت فيه المؤثرات البابلية واليونانية والسامية والجنوبية، كما مثلت جسراً للحوار بين الشمال والجنوب، والشرق والغرب. إن الحفاظ على هذه النقوش وصيانتها يمثلان تحدياً كبيراً في ظل عوامل التعرية الطبيعية، مثل الرياح والرطوبة وتغيرات درجات الحرارة، إضافة إلى التوسع العمراني والأنشطة البشرية. لذا، من الضروري تعزيز برامج الحماية الوطنية وتطوير تقنيات التوثيق الرقمي، إلى جانب إشراك المجتمع المحلي في جهود الحفاظ على هذا التراث. كما يجب الانفتاح على التعاون الدولي في مجالات البحث الأثري واللغوي، بهدف الاستفادة من الخبرات العالمية وتبادل المعرفة حول أفضل الممارسات في دراسة وصون التحف والنقوش الحجرية لتعزيز مكانة المملكة على خريطة التراث الإنساني العالمي، وإبراز مساهمة الجزيرة العربية في الحضارة الإنسانية.