سعود عبدالعزيز الجنيدل
لم تعد المعلومة حكرًا على الكبار، ولا المرجعية اللغوية حكرًا على من يحمل القلم، أو من جرّب الحياة قبلهم.
فجأة.. أصبح أولادنا يعرفون أكثر، يُصحّحون أكثر، وفي كثير من الأحيان.. يضحكون أكثر! كنت أتابع مقطعًا ساخرًا على «يوتيوب»، وأردت أن أُجرّب نطق كلمة أجنبية أمام ابنتي «دانة»، فقلت بكل ثقة:
«يعملون له ((prink))»... وكنت أقصد بالطبع الكلمة المعروفة ((prank)).
رفعت دانة حاجبها، ثم ابتسمت وقالت بنبرة ملؤها الطرافة والصدق:
«يا بابا.. رحت للمعهد على الفاضي؟ الكلمة تُنطق ((prank)) مو!((prink))»
ضحكنا معًا، لكن خلف تلك الضحكة كان هناك وعي يتشكّل، ودرس صغير يُلقَى دون أن نشعر.
لحظة عابرة، لكنها قالت لي الكثير.
الأدوار تغيّرت.
لم يعُد الطفل متلقيًا ساكنًا في ركن التلقين، يفتح فمه لما نُلقّنه به من مفردات أو مفاهيم.
بل أصبح ناقدًا، مشاركًا، بل ومعلّمًا حين يستدعي الموقف.
في لحظة، تحوّلت أنا إلى من يتعلّم، وهي إلى من يُوجّه بابتسامة لا تُحرج، بل تُنير.
الثقافة اللغوية عند أطفال هذا الجيل لا تأتي من قواميس جامدة، ولا من قواعد تُكتب على السبورة.
بل من ألعاب إلكترونية، ومحادثات عفوية، ومقاطع تُشاهد مئات المرات على الشاشات الصغيرة.
إنهم يختبرون اللغة حيّة، يومية، مشبعة بالاستخدام.. لا محفوظة في دفاتر.
صاروا يفهمون قبل أن نشرح، ويبتسمون قبل أن نفهم نحن لماذا يبتسمون.
ذلك الموقف البسيط ترك لديّ ثلاث حقائق:
أولًا: الوعي اللغوي عندهم حاضر، مبكر، ومنسوج بدقة التفاصيل.
هم لا يغفرون للكلمة أن تُنطق خطأ، ولو بنصف حرف.
ثانيًا: علاقتنا بهم لم تعد علاقة «توجيه من طرف واحد».
بل علاقة تبادلية، فيها نصغي كما نوجّه، ونتعلّم كما نُعلّم.
ثالثًا: الخطأ لم يعد نهاية الحديث، بل بدايته.
أحيانًا يفتح الخطأ بابًا للضحك، وأحيانًا أخرى يفتح بابًا للتأمل.. أو حتى للمحبة.
دانة، بابتسامتها العابرة، ذكّرتني أن العلم لا يُرتشف فقط من مراحل التعليم، ولا من الشهادات.
بل يُرتشف من لحظة.
لحظة تنطق فيها ((prink)) بدلًا من ((prank))، فيُعيدك صوت صغير.. إلى الصواب، وإلى ذاتك، وإلى بساطة التعلّم حين يكون مشتركًا.