عبدالوهاب الفايز
نواصل هذا الأسبوع استكشاف المشروع الفكري الذي يطرحه الدكتور محمد الجرباء في كتابه (قياس الأثر التشريعي وأهميته في الأنظمة والقرارات العامة). ومن الأمثلة التي يطرحها في إطار هذا المشروع: (ممرات المشاة داخل الأحياء السكنية القائمة). وفي رأيه، نحتاج إلى قياس الأثر التشريعي للإجابة عن الأسئلة التالية:
«هل شوارع بعض الأحياء السكنية راعت ممرات المشاة؟ كيف تمشي الطالبات والطلاب من وإلى مدارسهم؟ كيف يمشي المصلون عند خروجهم من المسجد؟ كيف يمشي من يرغب في الوصول إلى أقرب محل للتموينات، أو أقرب موقف للحافلات أو القطار؟ هل هناك فراغ تشريعي، أم أن هناك تفصيلات في لوائح متفرقة، ولكنها لم تنفذ؟».
طبعاً، الذي يتطلع إليه - نظراً للحاجة الإنسانية والاجتماعية - هو وجود نظام واضح ينظم ممرات المشاة داخل شوارع الأحياء السكنية، أو تعديل على نظام قائم؛ لأن قياس الأثر التشريعي الاستشرافي مهم، ويحقق نتائج إيجابية مثل: يساعد للمبادرة في حل مشكلة المشاة في شوارع الأحياء السكنية، وهذا يخدم المملكة في المعايير والمنافسات الدولية في جودة الحياة وتطور المدن. بالإضافة إلى المساعدة على رفع النشاط البدني الضروري لصحة الإنسان. كذلك يساعد في حل المشكلات القائمة التي يواجهها المشاة مثل المصلين، أو الطلاب، أو المرأة والطفل إذا أرادا الذهاب إلى البقالة أو محل التموينات أو غيره.
أيضاً، معرفة أثر التشريع الذي يساعد على تحقيق (سلامة المشاة) والحد من إصابات حوادث دهس السيارات للمشاة داخل الأحياء السكنية. كذلك يؤدي إلى تحقيق جودة الحياة عبر تسهيل ممارسة المشي داخل الحي السكني؛ وذلك سيعود بزيادة صحة الإنسان في بدنه ونفسه وعقله، وتقليل حاجته إلى الأدوية الطبية، والتكلفة الاقتصادية (غير المباشرة)، والتوافق مع رؤية المملكة 2030 .
الدكتور الجرباء، في منهجه الفكري وحتى يكون جزءاً من الحل، يقدم في الكتاب صيغة اقتراحات قابلة للدراسة والتطوير لـ(مشروع نظام ممرات المشاة داخل الأحياء السكنية)، يتكون من ثلاث عشرة مادة، انطلاقاً من مبدأ «المساهمة في تقديم الحلول الممكنة، وليس الاكتفاء بعرض المشكلة». وهذا يعظم المنفعة العامة لمشروع أنسنة الأحياء السكنية الذي يستهدف إيجاد أرصفة وممرات مشاة وتشجير. وفي رأيه، إن «هذا الجهد يحتاج مبالغ مالية طائلة، ويصعب معه تغطية معظم الأحياء في مناطق ومحافظات المملكة في المنظور القريب؛ لذلك نحتاج إلى إيجاد طريقة سريعة وبأقل تكلفة مالية ممكنة، من خلال أعمال الفكر، وغرس ثقافة حفظ حقوق المشاة وإيجاد الممرات الخاصة بهم».
ما يطرحه يقدم الفرصة لمناقشة وضع الأرصفة وحقوق المشاة، وهذه حاجة إنسانية واجتماعية بقيت خارج الأولويات الحكومية، وبعيدة أيضاً عن إدراك المجتمع، كحال معظم الأمور التي تمس السلامة العامة. معيار السلامة في مكون ثقافة المجتمع السعودي ضعيف جداً! (لم أجد أبحاثا علمية منشورة حول هذا الأمر). موضوع (حقوق المشاة) في الأرصفة تناولناه مرات عديدة، وقليل من يهتم به، بل هناك تيار معاكس يرى ضرورة تقليص الأرصفة وتوسيع الشوارع لاستيعاب زحمة السيارات، والسبب: الثقافة الاجتماعية والقناعة بأنه (لا يوجد مشاة، من يمشي بهذا الحر!).
لذا، وجدت الأمر مفرحاً، بل تطوراً نوعياً في الوعي، حين يأتي قانوني متمرس ومتخصص في القانون الدستوري ليأخذ سلامة المشاة إلى ملف حقوق الإنسان. وفي هذه الجريدة، (الجزيرة، عدد 22 يناير 2020)، طرحت هذه الأمنية في مقال بعنوان: «نعم.. الأفضل لنا نقل (ملف الرصيف) إلى هيئة حقوق الإنسان».
ومن المبررات الموضوعية لنقل هذا الملف تحول ما يقارب 80 % من السكان إلى العيش في المدن الكبرى المليونية، فهذا يجعل الأرصفة ضرورة حياة للناس، وليس مجرد مظاهر ترف تتزين بها المدن.
كما أن ارتفاع الإقبال الإنساني على الاستمتاع بالحياة داخل المدن، وأخذ القليل مما تقدمه المدن للإنسان، «هو الذي يجعل الاهتمام بالأرصفة والشوارع قضية حقوق إنسان». ومن يهتمون بهذا الجانب الإنساني مازالوا يرون أن تصاميم الأرصفة والشوارع لا تهتم بالإنسان، وتعتمد نمط التفكير والآليات التي وضعت منذ عقود مضت. فالأخطاء وإهدار الموارد على بناء الأرصفة مازال حياً نراه كل يوم، والغريب أنك ترى شوارع يعاد تأهيلها لتوسيع الأرصفة الجانبية وتقليل الجزيرة الوسطية، وليس بعيداً عنها ترى أرصفة تبنى على النمط القديم. إنها حالة عبث وإهدار للموارد!».
وقبل هذا بسنوات، في مشروع ملف الشهر (جريدة اليوم، بتاريخ 16-3-2014)، كانت قضية الملف الأولى حول الأرصفة، وجاءت تحت عنوان: (جرب المشي.. تخسر!)، وفي المقال الذي كتبته تقديماً لمشروع الملف، قلت: «رأينا أن نطرح أهمية الأبعاد الإنسانية للمدينة، فمدننا إذا لم نبادر بمشروع كبير لاستعادتها لتكون صديقة للإنسان، فإننا سوف نتوسع في حالة الاغتراب عن المدينة.
في العقود الماضية، اتجه تخطيط المدن إلى إعطاء الأولوية للنشاط التجاري وللسيارة، وأهمل الإنسان واحتياجاته لمدينة تتوافر فيها المقومات التي ترفع درجة التفاعل الإنساني. إن غياب مفهوم التصميم الحضري عن إدارة المدن وتخطيطها كان ضحيته الأولى (الرصيف)، فانتهت بنا الحال إلى إلغاء هذا الجزء الحيوي للمدينة، وغاب عن وعي الناس وعن اهتمام المسؤولين في البلديات والمرور والتجار، وهذا الغياب أدى إلى تحول المشي إلى حالة مخيفة ومرعبة، لذا تجربة المشي في مدننا تجربة خاسرة!».
المؤسف أننا -ولسنوات طويلة- أهملنا أموراً أساسية في الأحياء السكنية مثل ممرات المشاة الآمنة، والحدائق، والأكثر غياباً وإهمالاً: متطلبات السلامة المرورية! هذه تكاد تختفي بشكل نهائي، والنتيجة أننا ورثنا مئات الأحياء السكنية التي تخلو من ضرورات السلامة المرورية مثل الإشارات الضوئية في تقاطعات الشوارع الناقلة للحركة داخل الأحياء، والمطبات، والشواخص المرورية، فهذه لم تدرج ضمن متطلبات تطوير الأحياء السكنية مثل الكهرباء والماء وغيرها من الخدمات الأساسية. وهذا وضعنا أمام أمرين أحلاهما مر: إنفاق عشرات المليارات لأنسنة الأحياء ورفع جودة الحياة، أو الرضا بالوضع القائم! هل نتحمل هذا لأحيائنا السكنية؟
في الأحياء السكنية، تبدأ تفاصيل الحياة اليومية من خطواتنا على الأرض، من المسافة بين باب المنزل وأقرب بقالة، ومن الرصيف الذي يعبره طفل إلى مدرسته، أو المسن الذي يذهب إلى المسجد. هنا تكمن (أبسط صور حقوق الإنسان): حق المشاة في بيئة آمنة، منظمة، ومحترمة.
هل نعجز عن توفير هذه الأمور البسيطة؟!
الإيجابي أن رؤية السعودية 2030 لم تغفل عن هذا البعد الإنساني في بناء المدن؛ فهذا المستهدف موضوع في أولويات برنامج جودة الحياة. كما أن أمانة الرياض كانت سباقة منذ سنوات بعيدة لإطلاق مشروع الأنسنة للعاصمة انطلاقا من وعيها بأن هذا الأمر ليس وجاهة ورفاهية عمرانية، بل هو التزام بمقومات سلامة الأرواح، ودعم للصحة العامة، وتوفير لبيئة صديقة للجميع: الطفل، المرأة، المسن، والأشخاص ذوي الإعاقة، وأصحاب الاحتياجات الخاصة.
المعايير العالمية - ومنها أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة - تربط بين المشي الآمن والصحة العامة و(العدالة الاجتماعية). حين تُصمم الأحياء وتعطي الأولوية للمشاة، فهذا يقلل الاعتماد على المركبات، ويساهم في تحسن جودة الهواء، ويُخفض الحوادث، ويشجع على التفاعل الاجتماعي. أنسنة الأحياء بدأنا نراها تتوسع في بعض مدننا، فهناك مبادرات مميزة لإنشاء ممرات مشاة مظللة، وتوسعة الأرصفة، وتخصيص مسارات للدراجات، لكنها هذه لا تزال بحاجة إلى تعميم و(تجذير في ثقافة العمل البلدي والتخطيط العمراني).. حتى لا تستمر الممارسات الخاطئة.
أخيراً، أرجو أن نشارك الدكتور الجرباء دعوته إلى الارتقاء بوعينا وممارساتنا التنظيمية إلى القناعة بأن حماية حقوق المشاة ليست قضية بلدية أو مرورية فحسب، بل قضية كرامة إنسان. إنها دعوة لأن تكون أحياؤنا أماكن للتفاعلات الاجتماعية قبل أن تكون مجرد مساحات للسكن.
لا نريد المشي مغامرة خطرة.. بل متعة، وحق مضمون لكل مواطن ومقيم.