هويدا المرشود
ليست كل الجرائم تبدأ بندية، أحيانًا تبدأ بتساهل.
تبدأ حين يقول أحدهم: «خلّه يشتغل باسمي، ما تفرق»، أو حين تهمس له نفسه: «أأجر السجل وأكسب وأنا مرتاح، هو بس شكل قانوني».
ثم لا يلبث هذا «التساهل» أن يتحول إلى تشوهٍ يتسلل في السوق.. فيحكمه من لا يظهر، ويختفي من كان من المفترض أن يُبصر النور.
التستر التجاري ليس حكرًا على شبكات ضخمة ولا احتكارات عالمية، بل في الغالب، هو سلسلة من الأخطاء الصغيرة التي تراكمت..
كبقالة على ناصية الحيّ مسجّلة باسم مواطن، يديرها مقيم يتصرّف كما يشاء.. أو ورشة نجارة في الحيّ الصناعي، صاحب السجل لا يعرف عنها سوى اسمها، والمُشغّل الحقيقي لا يظهر في أي ورقة.. أو مطعم يفتح كل صباح بأيدٍ لا تملك حق التملك، لكنه يُسجَّل عند الجهات الرسمية على أنه مشروع وطني.
هؤلاء ليسوا مجرد مخالفين، بل هم أصل المشكلة.
لأن التستر الصغير لا يبقى صغيرًا. هو مثل الشرخ في الجدار: غير ملاحظ في البداية، لكنه كافٍ لانهيار كل ما بُني عليه.
إن السوق حين يسمح بتكرار هذه الصور، يُعيد تشكيل نفسه من الداخل: فيصبح المال في يد من لا يُسأل، وتُقفل الأبواب أمام الطامحين الحقيقيين، ويفقد النظام قدرته على التنظيم.
ثم تخرج الأرقام الرسمية لتعلن الحرب على التستر، بينما يعيش كثير من المجتمع وهمًا بأن التستر هو فقط «كبار التجار».
لا.. التستر فينا نحن.. في من يأخذ المقابل الشهري و»يغمض عينه».
في من يرى صديقه يفتح سجلًا على اسم والده لأجل «مصلحة».
في من يقول: «أنا مجرد اسم، ما لي علاقة».
بينما في الحقيقة، هو لبّ العلاقة.
هذا النوع من التستر لا يهدد السوق فحسب، بل يفسد ضمير الناس، يربّي أجيالًا على الغش المقنّن، ويجعل القانون أداة شكليّة يمكن تجاوزها باتصال، أو ورقة، أو توقيعا من شخص لا يعرف حتى محتوى ما يوقّع عليه...
ومن اعتقد أن ما يفعله «رزق مشروع» لمجرد أنه متعارف عليه، فقد نسي أن الرزق لا يأتي بالتواطؤ، ولا يُبارَك فيما بُني على مخالفة واضحة.
الأنظمة وُضعت لحماية السوق، لحماية المواطن، لحماية الحق.
والمواطن الحقيقي لا يبيع اسمه، لا يؤجّر هويته، ولا يرضى أن يكون قناعًا يُلبس فوق وجهٍ لا نعرف من هو.
نداء إلى من ظن أن الأمر بسيط:
كل مرة تؤجّر فيها اسمك، تسقط لبنة من العدالة.
كل مرة تغضّ فيها الطرف عن تستر صغير، تفتح بابًا لفساد أكبر.
كل ريال يأتيك من تستر، يأخذ معك شريكًا في الذنب.
وكل من صمت عن هذا الخلل، سيسمع صدى الانهيار لاحقًا، وهو لا يدري أنه كان جزءًا منه.
السوق لا يحتاج إلى وجوه مستعارة.
بل إلى وجوه تعرف أين تقف، ولماذا.