خالد محمد الدوس
في عالم البيئة البحرية.. (الحوت الأزرق) باعتباره أحد أكبر الكائنات على وجه الأرض ليس فقط مخلوقا مدهشا في حياته ونظامه البيئي..! بل يعتبر(موته) أيضا حدثا بيئيا فريدا يعرف باسم «سقوط الحوت»..!!
فعندما يموت الحوت الأزرق -الذي يصل طوله 33 مترا ووزنه يصل إلى 200 طن- ويغرق في قاع المحيط يصبح جسده مصدرا للغذاء والحياة وبناء نظام بيئي كامل قد يستمر عدة أشهر وبحسب خبراء البيئية البحرية فإن الحوت الأزرق الضخم بعد موته يولد نظاماً بيئيا جديداً في أعماق المحيط؛ حيث يصبح «واحة للحيوانات والنباتات» في المناطق العميقة التي تفتقر عادة إلى المغذيات، وتبدأ الكائنات المختلفة بالتجمع حول (الحوت الميت) في قاع المحيط مما ينشئ سلسلة غذائية متكاملة، والمثير حقا أن مراحل تحلل جثة الحوت العملاق متدرجه لأكثر من ثلاثة أعوام..!! كما تؤكده الدراسات البيئية البحرية، فقد كشفت الأبحاث التطبيقية في عالم البحار والمحيطات أن «أول مرحلة» هي التنقيب حيث تقوم الأسماك المفترسة مثل سمك القرش والكائنات الكبيرة بتناول اللحم، وقد تستمر هذه «المرحلة الأولية» عدة أشهر..! ثم يلي هذه المرحلة «مرحلة الاستعمار» حيث تبدأ القشريات والديدان والرخويات بتكسير الأنسجة المتبقية وتستفيد من الدهون والعظام، ثم «المرحلة الثالثة» من عملية أخذ النصيب بعد نفوق الحوت العملاق وتسمى «مرحلة التخمير الكبريتي» حيث تظهر البكتريا اللاهوائية وتقوم بتحلل العظام وتنتج بالتالي كبريتيد الهيدروجين مما يغذي الميكروبات والكائنات المتخصصة مثل بلح البحر الأنبوبي العملاق الذي يمكث في قاع المحيطات، وكما تصف الأبحاث المتخصصة فإن الحوت الأزرق يعد مصنع (كربون طبيعي).. فبعد سقوطه في أعماق المحيط يخزن كمية هائلة من الكربون في قاع المحيط، مما يسهم بالتالي في تنظيم المناخ البحري عبر منع انبعاث ثاني أكسيد كربون، وبعد أن تحلل جثة الحوت الأزرق العملاق وهو في مرقده في قاع المحيط، اكتشفت الدراسات المتخصصة أن تحلل عظام الحوت يساعد العلماء في فهم كيفية إعادة تدوير المواد العضوية في الطبيعة. حتى بعض الأنزيمات البكتيرية المكتشفة من جراء سقوط الحوت الأزرق بعد موته تستخدم في «التكنولوجيا الحيوية»..!
ما دفعني لتناول نظام الحوت الأزرق (بيئيا) في هذه المقالة.. هو اعتكافي على إعداد رسالتي للدكتوراه في تخصص دقيق في علم الاجتماع العام، وهو (علم اجتماع البيئة) العلم الفتي والخصب الذي يدرس العلاقة التفاعلية بين المجتمع والأنظمة البيئية المتنوعة.. البحرية والبرية والجوية، وجميع الكائنات الحية الإنسان والحيوان والبنات، ولفت نظري ومن خلال قراءتي لعالم البيئة البحرية أن الموت لبعض الكائنات الحية في البحار والمحيطات بداية لحياة جديدة.. وتشكيل (نظام بيئي متكامل)، ويأتي على رؤوس هذه الكائنات الحية (الحوت الأزرق) الذي حتى بعد موته يصبح «رمزاً للعطاء اللامتناهي» بعد أن يتحول جسده إلى مصدر للطاقة والحياة لمئات الكائنات الحية لفترة طويلة، هذه الظاهرة البيئية تذكرنا بأن الطبيعة -بتدبير الخالق العظيم- تعيد تدوير كل شيء.. ولا شيء يضيع فيها..!!
وبالطبع فإن الحوت الأزرق ليس مجرد مخلوق عجيب بل هو «مهندس نظام بيئي».. و»معلم صامت» يعلمنا أن العظمة في الخدمة، والثراء في العطاء، والقوة في التواضع، والخلود في الأثر.. متكيفا مع قوانين الطبيعة.. لا مسيطراً عليها بشكل جائر..!! ويعلمنا أيضا التواضع أمام عظمة الطبيعة وضرورة العيش بتوازن معها.
وباختصار، الحوت الأزرق العملاق هو تجسيد حي لفكرة أن «العظمة لا تعني الغرور» ضخامته المادية لا تقابله ضخامة في» الأنا أو الجشع أو العدوانية»، بل على العكس تواضعه في التعامل مع بيئته، وبساطة احتياجاته، وهدوء وجوده في عالم البحار والمحيطات هي ما تجعل عظمته حقيقية وملهمة.. ويذكرنا بأنه مهما بلغت قوتنا أو إنجازاتنا أو حجمنا (المادي أو المعنوي).. فإن التواضع والاحترام للآخرين وللطبيعة هو علامة القوة والحكمة الحقيقية.