منال الحصيني
هناك وفي تلك الزاوية المحايدة من الحياة نُدرك فجأةً أن بعض ما نحتاجه لفهم أنفسنا والحياة لا يمكن تعلمه من مناهج مكتوبة، فليست كل الدروس تكتب على سبورة، ولا كل المعارف تدون في الكتب، وأغلب الدروس التي تجعلنا أكثر إنسانية لا تقال في فصول دراسية ولا قاعات أكاديمية، لكنه يُهمس بها على أطراف طاولات المقاهي فالقلب يتكلم قبل اللسان.
هناك وفي المقاهي لا داعي لرفع يدك استئذاناً بالكلام ولا عقاباً على تأخُر عن موعد الحضور وكذلك هو الحال مع الدرس فهو غير محدد بزمن أو جدول مدرسي، لا سبورة لا جرس يعلن نهاية الوقت في المقهى نجد فوضى تُنضِج الوعي أصدق ما يقال إنها مدرسة من نوع آخر فلا معلم ولا اختبارات ومع ذلك نتعلم شيئاً لم يقل في المدارس.
ستُحسن (الاستماع) حينما تصغي لتفهم ما يقال لترد عليه، وستفهم (الاختلاف) حينما ترى تفاوت البشر الفكري والطبقي واللغوي ستتعلم جيداً من هذا التنوع دون إنكاره، ستقرأ (الحكاية) وراء كل إنسان وستعي أن الحُكم السريع نوع من الجهل غُلّف بالثقة، وستُترجِم (اللغة الصامتة) بفهمك للعيون قبل أن تنطق وستنتبه للإشارات قبل المفردات، ستفهم تمازج (الفن والفطرة) حيث الروايات التي تُكتب والقصائد المستوحاة من تلك المواقف العابرة التي نبعت من فطرة جمعت بين العمق والعفوية وربما بين الصمت والبوح.. والكثير من الأفكار التي رسمت على ألواح ذكية وربما ورق عابر.
فالمعرفة ليست حكراً على الكتب لكنها تبنى بالتجربة والحكمة ربما تولد من فم رجلٍ بسيط لم يكمل تعليمه لكنه عاش بالتجارب أكثر مما قرأ.
ففي حضرة طاولات المقاهي تلك القطع الخشبية المبعثرة في فراغ المكان (ستفهم) أن الهامش قد يكون أكثر صدقاً من الواجهة.
نحن لا ننفي دور المدرسة فهي المعلم الأول الذي أعطى المعلومة الصادقة لكنها ليست مسؤولة عن الفوضى التي نريد أن نُدرك بها الأشياء فهي تملأ عقولنا بالمعلومات ولكنها نادراً ما تلامس قلوبنا في ميولنا وتوجهاتنا.
في المقاهي تُناقش المعلومات وربما تشكك وتعاد صياغتها، فهي هوامش اندمجت بالواقع الرقمي. من خلال الحوارات العفوية والمنصات التفاعلية لم تفقد وجهها القديم لكنها لبست وجهاً جديداً يتناسب مع زمن تدفق المعرفة عبر الشاشة الصغيرة، فقد تحولت إلى منصات تعليم غير رسمي يُجرى فيها نقاشات إعلامية ومقابلات عميقة ودورات مباشرة عبر النت وتبنى فيها مشاريع تتقاطع بها الكلمة مع التقنية في عصر (الرقمنة) لم تعد المقاهي مجرد مكان للحوار والورق فقد تغير شكل تلك الطاولات وتعددت أوجه مرتاديها، سترى طالباً يراجع محاضرته عبر (اليوتيوب) وكاتباً يحرر مقالاته عبر (غوغل دوكس) ومصمماً ينهي عرض مشروعه خلف كوب قهوته.