د.عبدالرحيم محمود جاموس
منذ تأسيسها، لم تكن المملكة العربية السعودية تعتبر القضية الفلسطينية مجرّد ملف سياسي أو ورقة تفاوضية، بل كانت وما زالت قضية عقيدة ومبدأ والتزام، تتجذر في هوية الدولة ووجدان الأمة. وعلى مدار أكثر من سبعة عقود، ظلّت المملكة ركيزة الدعم العربي والدولي لحقوق الشعب الفلسطيني، في مواجهة مشروع الاحتلال والاقتلاع الاستيطاني.
وفي كل تحول إقليمي، بقيت السعودية على عهدها: لا سلام بلا عدالة، ولا عدالة بلا دولة فلسطينية مستقلة، عاصمتها القدس الشرقية، على حدود عام 1967.
أستذكر هنا، وبكل مسؤولية، لقاء عمل جمعني مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود -حين كان أميرًا لمنطقة الرياض ورئيسًا للجنة الشعبية لمساعدة الشعب الفلسطيني- بتاريخ 5 سبتمبر 1993م، أي قبل أسبوع واحد من توقيع اتفاق أوسلو في 13 سبتمبر، وقد جرى اللقاء في قصر الحكم بالرياض، بحضور مدير مكتبه الأستاذ عساف أبو اثنين، وكنت حينها المدير العام لمكاتب اللجنة في المملكة.
قدّمت للملك شرحًا حول خلفيات ودوافع التوقيع الوشيك على الاتفاق، فعقّب بكلمات لا تزال حيّة في وجداني، قال فيها:
«أخ عبد الرحيم، لا أتصور ولا أعتقد أن يكون هناك أي تمثيل أو تطبيع للعلاقات مع الكيان الصهيوني والقدس محتلة، ليس لأننا نحب القدس أكثر منكم، بل لأن دولتنا قائمة على أساس من العقيدة، والقدس جزء من العقيدة».
نقلت هذا الموقف المشرّف حينها إلى الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وإلى القيادة الفلسطينية، الذين عبّروا عن بالغ تقديرهم لصدق وعمق الالتزام السعودي آنذاك.
لا يزال هذا الموقف يتكرس اليوم من خلال مواقف رسمية موثّقة جاءت على التوالي:
1- تصريحات وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان في (منتدى دافوس، يناير 2023):
«لن تكون هناك علاقات دبلوماسية مع إسرائيل ما لم يتم حل القضية الفلسطينية، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية».
2- كلمة ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان (لقاء فوكس نيوز، سبتمبر 2023):
«القضية الفلسطينية أولوية، ولا تطبيع مع إسرائيل دون حل عادل يشمل قيام دولة فلسطينية مستقلة.»
3- بيانات مجلس الوزراء السعودي المتتالية التي تؤكد - وآخرها الأسبوع الماضي «الرفض القاطع لأي مشروع يهدف لتجاوز الحقوق الفلسطينية أو القفز عليها»، مؤكدًا على دعم المبادرة العربية للسلام.
4- قمة جدة العربية (مايو 2023) -التي استضافتها المملكة- نص بيانها الختامي بوضوح على أن «القضية الفلسطينية هي القضية المركزية، ولا سلام في الشرق الأوسط دون زوال الاحتلال وقيام دولة فلسطين على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية».
5- موقف المملكة المشترك مع فرنسا في مؤتمر الأمم المتحدة (يوليو 2025)، حيث أكدت المملكة على دعمها لمشروع القرار الخاص بالاعتراف الكامل بدولة فلسطين، واعتبرت ذلك «شرطًا لأي استقرار دائم في المنطقة».
لقد بيّنت المملكة في أكثر من مناسبة أن دعمها لفلسطين ليس نابعًا فقط من التزامات سياسية أو قومية، بل من مرجعية دينية وروحية، عبّر عنها خادم الحرمين الشريفين وولي عهده بكل وضوح. ولا تزال المبادرة العربية للسلام (بيروت 2002)، التي أطلقتها المملكة، المرجعية الأكثر شمولًا وعدالةً لأي تسوية، والتي تشترط انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي العربية المحتلة مقابل سلام شامل وتطبيع شامل. ولعلي أستحضر ما ورد في مقال الأستاذ خالد المالك رئيس تحرير صحيفة الجزيرة في (3 أغسطس 2025)، بعنوان «قطار السلام يتحرك بسرعة»، حيث شدد على أن أي «سلام» لا يمر بمحطة فلسطين لن يصل إلى وجهته، وأن التسويات الاستعجالية التي تتجاهل جوهر القضية، ستعيد إنتاج الفوضى والانفجار.
وأختم بالتأكيد على أن الرياض لا تُراوغ... بل تثبت على مدى أكثر من ثلاثة عقود، ومنذ ما قبل أوسلو وحتى قمة نيويورك الأخيرة، لم تحِد الرياض عن موقفها.
دعمها السياسي والمادي والدبلوماسي لم ينقطع، كما أن بوصلتها لم تنحرف، لم تقع تحت إغراء اللحظة، ولا ابتزاز الضغط الدولي، بل حافظت على مكانتها كمرجعية عربية وإسلامية في نصرة الشعب الفلسطيني.
فلا سلام بلا فلسطين، ولا استقرار بلا القدس، ولا مستقبل للمنطقة دون زوال الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة.