د. جوليا فؤاد السيد هارون
يشهد سوق العمل السعودي اليوم تغيرات جذرية لم تعد تقتصر على مجرد تبدّل في الوظائف أو القطاعات، بل امتدت لتشمل العقلية المهنية نفسها لدى الشباب السعودي. الوظيفة الحكومية التي كانت على مدى عقود نموذجًا للأمان والاستقرار، لم تعد تحتكر الطموحات، بل باتت خيارًا من بين خيارات متعددة، حيث تتنامى ثقافة العمل الحر، وريادة الأعمال، والمشروعات الصغيرة بفضل بيئة اقتصادية داعمة وتوجه وطني نحو التنويع والتمكين.
لقد رسّخت الوظيفة الحكومية في أذهان الأجيال السابقة مفهوم الأمان المالي والاستقرار المهني. ومع ذلك، فإن أبعاد الأمان اليوم تتجاوز الراتب الثابت لتشمل فرص النمو والتطوير الذاتي، والمرونة، وحرية اختيار مسار العمل. هذا التحول في المفاهيم يعكس وعيًا متزايدًا بأهمية الاستقلالية المهنية التي تحقق الرضا والإنجاز الشخصي.
تشكل رؤية المملكة 2030 نقطة التحول الكبرى التي دفعت باتجاه تغيير ديناميكيات سوق العمل. إن المبادرات الحكومية الداعمة لريادة الأعمال، وتمكين الشباب، وتوفير البنية التحتية الرقمية، لم تفتح فقط آفاقًا جديدة، بل ساهمت في تغيير النظرة التقليدية إلى الوظيفة والعمل، من نموذج مركزي إلى منظومة مرنة ومتنوعة.
يُظهر الواقع الاقتصادي والاجتماعي السعودي بروز جيل جديد يتبنى مفهوم الريادة والمشاريع الخاصة كوسيلة لتحقيق الذات والنجاح الاقتصادي. ولا يقتصر هذا على القطاع الخاص فقط، بل يتعداه إلى فضاءات رقمية وتعليمية تتيح فرصًا غير مسبوقة.
لكن هذه التحولات لا تعني إلغاء الوظائف الحكومية، بل هي تأكيد على ضرورة التنويع المهني وفتح آفاق متعددة أمام الشباب لممارسة أعمال تلائم طموحاتهم وقدراتهم.
تواجه هذه المرحلة تحولات معقدة تتطلب من المؤسسات الحكومية والمجتمعية التعامل معها بذكاء. إذ لا يكفي توفير الفرص فقط، بل يجب أن يصاحبها بناء ثقافي وتعليمي يدعم هذه العقلية الجديدة، ويعزز من مهارات ريادة الأعمال والابتكار.
كما يجب مراعاة الجوانب التشريعية والتنظيمية التي تحمي الحقوق وتحفز المنافسة العادلة، إلى جانب خلق بيئة عمل تشجع على التطوير المستمر والاستثمار في الموارد البشرية.
في الختام، ما نشهده اليوم ليس مجرد تغيير في اختيار الوظائف، بل هو انعكاس لتحول عميق في العقلية المهنية لشباب المملكة. تجاوز فكرة أن الوظيفة الحكومية هي الخيار الوحيد للأمان والاستقرار يعكس وعيًا أكبر بحجم الفرص المتاحة، وبقيمة الاستقلالية والابتكار.
هذا التحول يفرض علينا جميعًا، كمجتمع، أن نعيد التفكير في أدوات دعم الشباب، وأن نوفر لهم بيئة عمل متنوعة ومرنة تعكس طموحاتهم الحقيقية وتطلعاتهم المستقبلية. فتمكين الشباب ليصبحوا رواد أعمال وقادة في مجالاتهم هو استثمار حقيقي في مستقبل المملكة.
ولكي يستمر هذا الزخم، لا بد من تكاتف الجهود بين الجهات الحكومية، والمؤسسات التعليمية، وقطاع الأعمال، والمجتمع المدني، لبناء منظومة عمل حديثة تحفز على الابتكار والتطوير، وتقلل من المخاطر المصاحبة لريادة الأعمال، وتعزز ثقافة التعلم المستمر.
بهذا الفهم المشترك، يستطيع الشباب السعودي أن يشكلوا مستقبلًا مزدهرًا، متنوعًا، ومبتكرًا، يحقق لهم الأمان المهني والنجاح الشخصي، في إطار رؤية وطنية واضحة ومستقبل مشرق للجميع.