أ.د.عثمان بن صالح العامر
نحن في زمن فتحت فيه منافذ العلم، وصار بإمكان الجميع الحصول على المعلومة بضغطة زر، بل أصبح الحال اليوم أسهل بكثير من ذلك، إذ يمكن لأي منا أن يتحدث لأي من تطبيقات الذكاء الاصطناعي فيحصل على الإجابة الشافية الكافية التي كان مَن قبلنا يمضي الساعات، بل الليالي والأيام من أجل الوصول إليها، وهذه في حد ذاتها نعمة عظيمة ولكنها ربما انقبلت نقمة في أحوال عديدة، لعل من بينها حين يظن من صارت هذه بضاعته، وهذا مرجعه أعنى تطبيق GhatGPT ومن على شاكلته أنه أضحى مؤهلاً للتوقيع عن الله، وقد تملي له نفسه أنه بلغ مرتبة الاجتهاد وبإمكانه الارتقاء إلى منزلة لم يبلغها من سبقه من علماء الأمة الربانيين إلا بشق الأنفس، فيصير يرسل عبر مواقع التواصل الاجتماعي ما انتهى إليه من حكم بمساعدة ومعاونة الذكاء الاصطناعي، وقد يجتهد في القياس والاستصحاب وسد الذرائع والمصالح المرسلة وعمل أهل المدينة و... وهو لا يعرف إلا النزر اليسير من هذه المصادر الفرعية للمفتي. هذا الأمر الخطير الذي بدأ يطل برأسه في مجتمعنا المحلي جعلني استضيف في هذه الزاوية والتي عنونتها بـ(الموقِّعون عن الله في عصر الذكاء الاصطناعي) شمس الدين أبي عبدالله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية المتوفى عام 751 للهجرة ليبيِّن لنا خطورة مسألة تنصيب الإنسان نفسه للناس ليقول لهم هذا هو مراد الله، ومن جميل قوله -رحمه الله- في هذا ما نصه: (ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ، والصدق فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالماً بما يبلغ، صادقاً فيه، ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضي السيرة، عدلاً في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله، وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؟ فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به، فإن الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ}، وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفاً وجلالة، إذ يقول في كتابه:يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ}، وليعلم المفتي عمَّن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤول غداً وموقوف بين يدي الله). بالمناسبة يعيب البعض على العالم أن يقول لا أدري، بل إن بعض طلبة العلم يخشى أن يسقط من عيون الناس وطلابه إذا سُئل وقال لا أعلم فيفتى بغير علم فيضل ويضل ويوقِّع عن الله زوراً وبهتاناً، وربما قادته نفسه إن يورد حديثاً يسند ما يقول، والحديث إما غير صحيح أو مكذوب موضوع، في الحديث «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار».
يقول ابن القيم ضيف هذا اللقاء (... قال أبو داود في مسائله: ما أحصى ما سمعت أحمد سُئل عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم فيقول: لا أدري، قال: وسمعته يقول: ما رأيت مثل ابن عيينة في الفتوى أحسن فتيا منه، كان أهون عليه أن يقول لا أدري. وقال عبدالله بن أحمد في مسائله: سمعت أبي يقول: وقال عبدالرحمن بن مهدي سأل رجل من أهل الغرب مالك بن أنس عن مسألة فقال لا أدري فقال: يا أبا عبدالله تقول لا أدري؟ قال: نعم فأبلغ من وراءك أني لا أدري. وقال عبدالله: كنت أسمع أبي كثيراً يسأل عن المسائل فيقول: لا أدري ويقف إذا كانت مسألة فيها اختلاف، وكثيراً ما كان يقول: سل غيري، فإن قيل له: من نسأل؟ قال: سلوا العلماء، ولا يكاد يسمي رجلاً بعينه. قال: وسمعت أبي يقول: كان ابن عيينة لا يفتي في الطلاق، ويقول: من يحسن هذا؟!
ويذكر ابن القيم أيضاً أن السلف من الصحابة والتابعين كانوا يكرهون التسرّع في الفتوى ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، فإذا رأى أنها قد تعيَّنت عليه بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى.. فهل نكون كما هم؟ وعلى ما قال ابن القيم أوقع.. وإلى لقاء، والسلام.