د. إبراهيم بن جلال فضلون
مهمته الخفية التلاعب بنا وبإرادتنا ودون إدراكه..
صُمم لمجاملة مُستخدميه بفاعلية غير مسبوقة، وصلت إلى حدّ أن المحادثات قد تقودهم تدريجياً إلى الغوص في الأفكار المؤامراتية، أو ترسيخ قناعات لم تكن في السابق سوى خواطر عابرة. ونظراً لافتقاره إلى الدقة المعرفية والتحقق الفوري من الحقائق، إلا أنه نتاج لمعلومات مضللة أو خاطئة. له الأثر الكبير على القدرات العقلية والنفسية والاجتماعية بالأخص على تفكير الرد، وبالتالي فإن تداعيات ChatGPT المستقبلية على الصحة النفسية بالنظر إلى الحالات التي قد يؤدي فيها الاستخدام غير السليم إلى اضطرابات نفسية وهو ما حدث بالفعل ليصبح صاحب التأثيرات النفسية التي تمتد من تآكل القدرات الذهنية إلى تحفيز نوبات الذهان لمستخدمي الذكاء الاصطناعي، وقد يرتبط بتراجع التفكير النقدي والتعلّق العاطفي والنوبات الذهانية ليكون بالفعل وبالدرجة الأولى ليس آمناً للدعم النفسي، لكونه يصل لمراحل قد تؤدي إلى الانتحار، وهو ما بينتهُ ميتالي جاين، محامية ومؤسِّسة «قانون العدالة التقنية «(Tech Justice Law)، أن أكثر من 12 شخصاً تواصلوا معها في شهر واحد، كانوا «قد تعرّضوا لنوع من النوبات الذهانية أو حالات وهم نتيجة تفاعلهم مع تشات جي بي تي، والآن أيضاً مع منصة جيميناي من جوجل التي رفعت على الأخيرة دعوى قضائية مقدمة ضد شركة Character.AI، تتهم روبوت الدردشة بالتلاعب بصبي يبلغ من العمر 14 عاماً عبر تفاعلات خادعة وإدمانية وذات طابع جنسي صريح، ما أدى في نهاية المطاف لانتحاره وهو ما نفته جوجل، فمن يكون إذاً؟!.
إن مجموعات الدردشة المتنوعة من التفاعلات أو الأحداث الاجتماعية أو العلائقية، تُسبب مشاكل في الصحة النفسية مثل الاكتئاب بل وقد تُسبب العلاقات المسيئة وتدهور الثقة بالنفس، والتجارب التي تُسبب العجز الذي قد يدفع المرء إلى الاعتقاد بفقدان السيطرة على حياته، والصدمات النفسية واضطرابات إفراز الهرمونات، والأفكار الانتحارية، فقد كشفت دراسات أن الموظفين المحترفين الذين يعتمدون على «تشات جي بي تي» في تنفيذ مهامهم قد يفقدون تدريجياً شيئاً من مهارات التفكير النقدي وتحفيزهم، وقد يشعرون بالإحباط من مسيرتهم المهنية نتيجةً لذلك.
وقد يؤدي التلاعب ببيانات التدريب إلى تكوين بيانات مالية وتوقعات سوقية خاطئة مما يؤدي إلى انهيارات في أسواق الأسهم، وفي حالات أكثر تطرفاً، أُصيب بعض الأشخاص بنوبات ذهانية بعد قضاء ساعات طويلة يومياً في الحديث مع هذه الأدوات، حتى شهد سوق العمل تغيرات سريعة قد تستمر هذه التغيرات لفترة طويلة.
يصيب أمر مقلق أدمغتنا مع تزايد الإقبال على استخدام منصات الذكاء الاصطناعي. ولا يزال من الصعب قياس تأثير الذكاء الاصطناعي التوليدي على الصحة النفسية بدقة، فقد يكون أساس النظام التعليمي في خطر، حيثُ وجدت أبحاث سابقة أن الصعوبات الدراسية ترتبط بالاضطرابات النفسية وإدمان المخدرات.
وقد اعترفت شركة «أوبن إيه آي» أنها تعمل على تطوير «أدوات مؤتمتة لرصد مؤشرات الضيق النفسي والعاطفي لدى المستخدمين، بما يتيح لتشات جي بي تي الاستجابة بشكل أكثر ملاءمة».
لكن الرئيس التنفيذي، سام ألتمان، أقرّ الأسبوع الماضي بأن الشركة لم تتوصّل بعد إلى وسيلة فعالة لتحذير المستخدمين من أنهم «يوشكون على الانهيار الذهني»، ولكن هل يمكن للتفاعل مع الذكاء الاصطناعي أن يُنتج التجربة الإيجابية التي وصفتها ليليان ونغ؟
بحسب دراسة نُشرت قبل أيام في المجلة العلمية «نيتشر ماشين إنتلجنس» (Nature Machine Intelligence)، يمكن تفسير هذه الظاهرة من خلال تأثير الدواء الوهمي.
بدليل أن المنظمة الأمريكية غير الحكومية «كوكو» أقرت بإجراء تجربة في فبراير على 4000 مريض قُدمت لهم نصائح مكتوبة باستخدام نموذج الذكاء الاصطناعي «جي بي تي-3»، بأن الاستجابات الآلية لم تنجح كعلاج، بل واشتكى مستخدمون لريبليكا(Replika)، وهو تطبيق شائع معروف بتقديم منافع للصحة النفسية، بشكل خاص من أن الذكاء الاصطناعي قد يصبح مهووساً بالجنس أو متلاعباً.
لقد أعلنتها من قبل عبر صفحتنا بصحيفة الجزيرة بعدة مقالات بخطورة الذكاء الاصطناعي السلبية علينا حتى ألغت عدة بلدان أوروبية الهواتف والتكنولوجيا لأبنائها في التعليم، ليُعلن الزميل دوجلاس راشكوف، الكاتب والمفكّر المتخصص في الإعلام قولهُ:
«ستجد كلّ ما ترغب بسماعه، وبأسلوب مضخّم»، مشيراً إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي كانت على الأقل تنتقي من محتوى موجود لتعزيز ميول المستخدم أو آرائه، أما الذكاء الاصطناعي، «فبوسعه توليد محتوى مُعدّ بدقة ليناسب عالمك الداخلي»..
بل وقرّ سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي»، بأن النسخة الأحدث من «تشات جي بي تي» تتضمّن نزعة تملّق «مزعجة»، مؤكداً أن الشركة تعمل على إصلاح هذا الخلل.
ورغم ذلك، لا تزال مظاهر الاستغلال النفسي مستمرة. وكتب جوزيف وايزنباوم، مبتكر البرنامج، لاحقاً عن سلف «تشات جي بي تي» هذا:
«ما لم أدركه هو أن التعرض القصير للغاية لبرنامج كمبيوتر بسيط نسبياً يمكن أن يحفز أفكاراً وهمية قوية لدى الأشخاص العاديين تماماً!».
إنها طامة كُبرى ننام ونحيا عليها كل ثانية، ومنا من يفرح لتلك الآثار الوخيمة المحتملة للذكاء الاصطناعي على الصحة النفسية مع ازدياد شعبيتها في مجال الصحة النفسية لأغراض التشخيص والعلاج، فقد كان ينقصنا ذلك الدمار بينما تمتلىء الشاشات وصفحات التواصل الاجتماعي بملايين من مروجي أصحاب العلاج والصحة النفسية والاضطرابات الأسرية وغيرهما ممن صدعوا رؤوسنا وهُم لا يفقهون علماً ولا معرفة إلا دماراً للمجتمعات.
وأخيراً إن مطوّري الذكاء الاصطناعي يعملون في فراغ تنظيمي شبه كامل، وفــي غــياب الرقابة، ثمة خوف من أن تتحوّل هذه التأثيرات النفسية الدقيقة إلى أزمة صحية عامة قد تتجاوز الوبائيات، فهل يمكننا دق نـاقــوس الـخطر لأبنائنا وشبابنا وتوعيتهم قبل فوات الأوان فنحنُ أمة مستهدفة بذلك أولاً وأخيراً؟!!