إعداد - عبدالله عبدالرحمن الخفاجي:
في زمنٍ يسعى فيه الغالبية العظمى نحو الشهرة والتفاعل اللحظي، هناك فنانون تشكيليون يفضلون العزلة، يرسمون داخل مراسِمهم الخاصة، بعيدًا عن المعارض وأضواء الكاميرات، وأحيانًا حتى عن وسائل التواصل الاجتماعي. لا يملكون حسابات على الإنترنت، ولا يشاركون أعمالهم مع الجمهور، بل يكتفون برسم لوحاتٍ تظلّ حبيسة جدران صامتة.
من هم هؤلاء؟ ولماذا يختارون الغياب رغم موهبتهم؟ هل الفن يحتاج حقًا إلى جمهور ليكون حيًا، أم أن هناك جوانب أعمق لهذا الصمت؟
بينما تتزايد المعارض والفعاليات الفنية وتغزو وسائل التواصل منصات العرض والانتشار، يظل هناك عدد من الفنانين الذين يميلون للابتعاد عن هذه الدائرة الصاخبة. يمتلكون مهارات عالية وأعمالاً مميزة، لكنهم يفضِّلون أن تبقى لوحاتهم بعيدًا عن أعين الناس، أو تُعرض فقط لمحيط ضيق، أو تظل دون عرض أصلاً.
هذه الظاهرة ليست استثناء أو حالة عابرة، بل هي أمر متكرر يتكرر في العديد من المدن والبلدان، حيث يختار فنان أن يعيش فنه لنفسه فقط. بعضهم يرسم للمتعة وللتعبير الداخلي، دون أن يكون هدفه التقدير أو الشهرة.
الدوافع التي تقف وراء هذه العزلة متنوعة وعميقة. بعض الفنانين ينظرون إلى الفن كرسالة شخصية، لا يحتاج أن تُعرض أو تُباع. يرون أن اللوحة التي تُخلق من القلب لا تتطلب شهودًا أو تصفيقًا. بالنسبة لهم، الرسم هو حوار مع الذات، ومنازل داخلية يبحثون فيها عن السلام.
في المقابل، هناك من يختبئ وراء الخوف. خوف من النقد، من الرفض، أو حتى من الفشل. كثيرًا ما يشعرون أن لوحاتهم ليست «جاهزة» أو «مقبولة» رغم جمالها الحقيقي، وهذا النقد الذاتي يجعلهم ينسحبون بعيدًا.
وبعضهم الآخر يجد نفسه مقيدًا بظروف الحياة؛ فقد يكون لديه عمل يتطلب الوقت كله، أو مسؤوليات تمنعه من المشاركة في الفعاليات، أو ببساطة لا يملك دعمًا مادياً أو اجتماعيًا يشجعه على الظهور.
وأيضًا هناك فئة لا تُقدّر إلا الهدوء والانعزال، تلك الأرواح التي تجد في الوحدة ملجأً وموطنًا للإبداع، فلا يهمها الظهور بقدر ما يهمها الصدق في التعبير.
في أماكن هادئة، بعيدًا عن ضجيج المدينة، تختبئ مراسم صغيرة تحتضن فنانًا لا يُعرف اسمه. ساعات طويلة يمضيها وحيدًا، بين ألوانه وفرشاته، في حوار صامت مع لوحات قد لا يراها أحد سوى هو.
قد يكون هذا الفنان موظفًا عاديًا أو رب أسرة، يعود في المساء ليغوص في عالمه الخاص، يبدع في تكوين جماله دون أن يبحث عن شهرة أو اعتراف. أحيانًا يشارك لوحاته مع صديق مقرَّب، أو يحتفظ بها كما نحتفظ بذكريات لا نريد أن يشاركها أحد.
هو يعيش العلاقة التي اختارها مع فنه، علاقة خاصة وشخصية، لا تحتاج إلى جمهور أو متفرجين.
العزلة تحمل في طياتها وجهين:
من جهة، هي ملاذ آمن يفتح للفنان مساحة للتركيز والتأمل، حيث يستطيع الغوص عميقًا داخل ذاته، ويولد أفكارًا جديدة بلا ضغوط أو تدخلات. التاريخ مليء بفنانين كبار شهدوا فترات انعزال أسهمت في خلق روائعهم.
لكن من جهة أخرى، قد تتحول هذه العزلة إلى قيد يمنع التواصل وتبادل الخبرات. غياب النقد البنّاء، وقلة التفاعل مع الآخرين، قد يجعل الفنان يظل في دائرة ضيقة، تغيب عنها التطورات والتجارب الجديدة. كما أن الوحدة المستمرة قد تؤثّر سلبًا على الحماس والإنتاجية.
في عصر تتسارع فيه التكنولوجيا والتواصل، قد يفتقد الفنان المنعزل فرصًا ثمينة للوصول إلى جمهور أوسع، أو للتأثير في المشهد الفني.
غياب هؤلاء الفنانين يعني فقدان جزء ثمين من التنوع الفني والفكري والثقافي. قد تكون بين لوحاتهم أفكار جديدة، ورؤى مختلفة لا تتكرر، وثورات فنية صامتة. هذه الخسارة ليست فقط للفن، بل للمجتمع بأكمله الذي يُحرم من فرصة رؤية العالم من زوايا أخرى.
المشهد الفني يصبح أقل ثراءً عندما لا يتسع للجميع، خاصة لمن يختارون الصمت بدل الضجيج. قد نخطئ إذا ظننا أن قلة ظهورهم تعني ندرة في المواهب، فالمبدعون موجودون، لكنهم يفضّلون أن يبدعوا بصمت.
يبقى السؤال: كيف نخلق بيئة تشجع هؤلاء الفنانين على التعبير، دون أن نفرض عليهم شروطًا تغير جوهر إبداعهم؟
هو صمت يتحدث بصوت عالٍ، ففي زمن يركض فيه الجميع نحو الأضواء، يظل الفنانون في الظل يرسمون، ليس للعرض أو التصفيق، بل لأن الرسم هو لغتهم الخاصة، هدوء ينساب من القلب إلى لوحاتهم وخاماتهم الفنية.
هل يكفي أن يرسم الفنان في السر؟
أم أن لهذا الصمت ثمنًا نجهله؟
كيف نحتضن هؤلاء الفنانين على طبيعتهم، ونوفر لهم مساحات حقيقية دون ضغوط؟
ربما التحدي الحقيقي أن نستمع إلى هذا الصمت، وأن نحترم وجوده، دون أن نحاول تغييره أو نلغي طبيعته. الفن، سواء كان صاخبًا أو هادئًا، هو لغة الروح التي تحتاج فقط لمن يسمعها بصدق.
** **
تويتر: AL_KHAFAJII