محمد بن سالم بن علي جابر
في المملكة العربية السعودية، يسطع الحضور الحضرمي كخيط متين يربط بين عبق الأصالة اليمنية وملامح النهضة السعودية الحديثة. حضرموت الأرض، التي أخرجت عبر التاريخ أفواجاً من أبنائها نحو المهاجر البعيدة طلباً للرزق والعلم، وجدت في أرض الحجاز وعموم المملكة حضناً دافئاً منذ القرن التاسع عشر وما قبله، فاستقرت فيها أسرٌ حضرميةٌ أصيلة، كان لها أثر بالغ في ملامح المجتمع السعودي، خاصة في الحجاز وجدة ومكة والرياض.
تميز الحضارمة في السعودية، كما في مهاجرهم الأخرى، بفطنتهم التجارية، وإخلاصهم العملي، ونظافة سيرتهم المالية. فمنهم من أسس كبرى المؤسسات الاقتصادية والمصرفية، مثل سالم بن محفوظ مؤسس البنك الأهلي التجاري، ومحمد بن لادن الذي كان له إسهام واضح في تشييد بنية المملكة التحتية، وغيرها من عائلات بقشان وكعكي وباشراحيل وجمل الليل وباريان وباخشب وبغلف وبلشرف وبابكر وبحلس وباحمدان، وغيرهم الكثير والكثير ممن لا يتسع المقام لذكرهم وقد غدوا من أعمدة التجارة السعودية. واتسم الإنجاز الحضرمي بأنه لم يتوقف عند نطاق التجارة فحسب، بل شمل أيضاً البناء الإداري والاجتماعي، ما جعلهم جديرين بالثقة عند قادة المملكة والعائلات المالكة.
أما على المستوى الثقافي والاجتماعي، فقد حمل الحضارمة معهم منظومتهم القيمية القائمة على الأمانة والتآزر والتكافل، وهو ما خلق بينهم شبكات دعم متماسكة ورفد بذلك الروح المحلية السعودية بملامح جديدة من الانفتاح والجد والاجتهاد. اندمجوا بسلاسة في النسيج الاجتماعي السعودي دون أن يفقدوا هويتهم، محافظين على عاداتهم الأصيلة من الاحتفاء بالمناسبات الدينية وتقاليد الضيافة الراقية، ومقدمين نموذجاً للتعايش والتنوع الثقافي ضمن الوحدة الوطنية.
ولم يكن للحضارمة نظام خاص منفصل في السعودية كما في بعض المهاجر، بل أخلصوا للاندماج في المجتمع، وأسهموا في الحياة العلمية، حيث برز منهم الأئمة والعلماء والمدرسون والخطباء في الحرمين الشريفين، محققين تلاقياً خصباً بين حواضر حضرموت وبلاد الحجاز في حقل العلم والأدب والدين. وهكذا صار حضورهم الثقافي علامة خصبة على القدرة الفريدة للثقافة السعودية في استيعاب التنوع وإثراء الأصالة بالعطاءات الجديدة.
وقد كان لقادة المملكة العربية السعودية، منذ عهد الملك عبدالعزيز آل سعود ووصولاً إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود حفظه الله، مواقف نبيلة في تشجيع الحضارمة من النواحي التجارية والاجتماعية والثقافية، كما هو الحال مع الجاليات الأخرى في المملكة. إذ أدركت القيادة السعودية باكرًا أهمية وجود الحضارمة ودورهم الفاعل، فوفرت لهم فرص الاندماج والعمل والاستثمار، وجعلت من ثقتها بهم رافعة أساسية لإسهاماتهم في النهضة الاقتصادية والاجتماعية للمملكة. ولم تقتصر هذه السياسات الحكيمة على الأجيال الأولى، بل امتدت لتشمل الجيلين الثاني والثالث من الحضارمة، مما عزز مساهماتهم مستفيدين من الأجواء الداعمة والمحفزة. وقد انعكس هذا الدعم والثقة واقعًا ملموسًا في مجتمع الأعمال والمجتمع المدني، ونشأت من رحم هذا التلاقي نماذج نجاح عديدة رسخت مكانة الحضارمة كمكون أصيل في البناء السعودي الحديث ومثالًا على التلاقي الحضاري المثمر.
واليوم، لا تزال الجالية الحضرمية في السعودية تضيف إلى لوحة المجتمع المحلي مزيداً من الألوان، مستمدين من إرثهم العريق روح الابتكار والريادة، ومساهمين في صوغ مستقبل ثقافي سعودي متجدد، يُحتفى فيه بالتنوع ويُحتضن فيه الجميع دون ذوبان في الآخر أو تكلس عند حدود النسب والأصل. لقد أثبتوا أن الهويات المهاجرة حين تلتقي بالتربة المضيافة تستطيع أن تزهر في قلب مجتمعها الجديد، وتغدو جزءاً لا يتجزأ من قصة النهضة والنجاح.