نجلاء العتيبي
منذ اللحظة الأُولى حين نُرزَق بطفلٍ لا تبدأ حياة جديدة له وحده، إنما تبدأ فينا رحلةٌ أخرى تمتدُّ بالرعاية، وتمتلئُ بالمسؤولية.
صغيرٌ في حجْرنا لا يتكلَّم، ولا يسأل، لكنه يمتلئُ بحسٍّ يقظٍ يلتقط كلَّ ما حوله: صوتنا، نظرتنا، طريقتنا في التعامل، وحتى صمتنا.
لا يبدو مدركًا، لكنه يُسجِّل، يُخزِّن التفاصيل الصغيرة في ذاكرة عميقة تتراكم؛ لتصنع ما سيُعرف لاحقًا بشخصيَّته.
نظنُّ أننا نُربِّيه بالكلام، بينما هو يتعلَّم من ملامحنا، من اللمسة، من الحضور، من كل ما لا نقوله.
وكل لحظة قربٍ نعيشها معه تكون في الحقيقة لحظة غرسٍ تمتدُّ جذورها بعيدًا في أعماقه.
في بدايات الطفولة نكون نحن العالم الأول الذي يعرفه.
نحن الأمان، والمأوى، والمرآة الأُولى التي يرى فيها ملامح الحياة.
نظنُّ أننا نُعلِّمه بالنُّصح لكنَّه يتشرَّب ما نفعله أكثر مما نُعلنه.
كل تصرُّف نقوم به، كل نبرة صوتٍ، كل التفاتة حنانٍ أو لحظة ضيقٍ، تنزل إليه كالبذور تُزرَع في تربة طريَّة تنتظر مَن يُحسن العناية بها.
وكلما أحطناه بالصدق، والرحمة، والثبات، نما فيه شيءٌ أصيلٌ، لا يُمحى بسهولة.
ليست أوامر نُلقِّنها، بل معانٍ نتركها في القلب، تنمو وتزهر حين يحين وقتها.
نُدرِّبهم على الشجاعة دون تهوُّر، وعلى اللين دون ضعفٍ، وعلى الطاعة دون انكسارٍ.
نمنحهم القواعد، ونمنح معها الفهم؛ لأن التربية تنمو بالفهم لا بالأمر.
بالاحتواء لا بالإكراه، وبالحضور لا بالسطوة.
نغرس الصدق كما نغرس النظافة، نُعلِّمهم أن الكلمة موقفٌ، وأن الرحمة لا تُناقض الحزم، وأن الاحترام لا يُنتزَع بالخوف، وإنما يُبنى بالمحبة والثبات.
ثم تأتي الأيام؛ يكبرون وتتَّسع رؤيتهم، تتشكَّل شخصياتهم بهدوءٍ كما أردنا.
نراهم يستقلُّون بخطواتٍ ناضجةٍ يحملون ما غرسناه دون أن نُذكِّرهم به، ويُعبِّرون عن أنفسهم بلغةٍ تشبه قلوبنا.
لا حاجة للوصايا الكثيرة؛ فالصوت الذي زرعناه في أعماقهم صار بوصلةً، والسلوك الذي تعبنا في غرسه صار عادةً.
فنبتسم، ونطمئن، ونواصل الرعاية من بعيدٍ بثقة الزارع الذي يعرف أن أرضه طيِّبة، وأن موسمه قد أزهر.
وتأتي اللحظة.
لا تكون مبهرة، ولا مرتفعة الصوت، قد تكون جملةً قالها في موقف أو ردة فعلٍ راقية.
في مشهد بسيط، أو صمتًا في لحظةٍ كانت تستحقُّ الغضب.
هناك، فقط هناك، نعرف أن الغرس لم يَخُن.
الثمر لا يصرخ بحضوره، لكنه يُشعرك بالطمأنينة.
إنك رغم التعب، رغم الصبر، كنت تمضي في الاتجاه الصحيح.
لا أحد يُعدّ عائدًا ماديًّا من التربية، ولا أحد يُطالب بنتائج فورية.
التربية ليست صفقة إنها رسالة.
نُقدِّم العمر، نُضحِّي بالراحة، نُنزف الوقت، فقط لأننا نؤمن أن في نهاية الطريق سيأتي الابن أو الابنة، لا ليرُدَّ الجميل، وإنما ليكون هو الجميل.
أن تُهدي الحياة إنسانًا نقيًّا يعرف كيف يسير بثبات تلك هي البطولة.
وما دام الغرس طيِّبًا فالثمرُ آتٍ في أوانه جميلًا كما رجونا.
ضوء
«يتعلَّم الأطفال ما يعيشونه، ثم يكبرون؛ ليعيشوا ما تعلَّموه». - دوروثي لو نولتي.