عبدالله صالح المحمود
لم تعد الأمية تعني الجهل بالقراءة والكتابة. هذه مرحلة تجاوزناها منذ زمن.
اليوم، نعيش شكلاً جديدًا من الأمية، أكثر خطورة، وأشد تأثيرًا: أمية الفهم.
نقرأ كثيرًا. نتصفح أكثر. نحفظ العناوين، ونكرر الشعارات، ونشارك المحتوى بكثافة. لكن هل نفهم؟
هل نُميّز بين الفكرة والتأثير؟ بين التحليل والتحريض؟ بين الحقيقة والرأي؟
المشكلة ليست في توفر المحتوى، بل في استيعابه.
نعيش في زمن لا يشكو من قلة المعرفة، بل من وفرتها.
في السابق، كان الوصول إلى المعلومة صعبًا، لكن التلقي عميقا.
اليوم، المعلومة تأتيك دون طلب، لكنك تستهلكها كوجبة سريعة.
كل شيء مختصر: مقالة بـ150 كلمة، كتاب تحوّل إلى بودكاست، محاضرة إلى فيديو. والقارئ الجديد يريد معرفة لا تستغرق منه أكثر من دقيقتين.
هذه السرعة فرضت ثقافة سطحية، يُسهل فيها تبنّي المواقف، ويصعب فيها فهم السياقات.
صار الناس يختلفون قبل أن يقرؤوا، ويتحمسون دون أن يتثبّتوا، ويُدلوا بآرائهم في كل شيء، بينما هم لا يُمسكون بأي شيء.
المفارقة أن هذه الأمية لا تُرى، بل تتخفى خلف شاشات مضيئة، وتغريدات، ومؤثرين يملكون القدرة على الصياغة لا التفكير.
هي أمية مرتبة، أنيقة، تُشعرك بأنك تعرف، بينما أنت لا تعرف سوى ما يُقال لك، وبالطريقة التي أرادها صانع المحتوى، لا أنت.
في هذا السياق، تبرز أزمة أعمق: تقديس الانطباع بدل الفهم.
يكفي أن تتابع تعليق الناس على مقطع أو عنوان مثير، لترى كيف تُبنى الآراء على نصف معلومة، وتُشن الحروب على اقتباسٍ مجتزأ.
لم نعد نقرأ لفهم المعلومة، بل لنتبنى موقفًا منها فورًا. هذه ليست قراءة... هذا شغب فكري.
ولأن كل شيء بات مرئيًا، صرنا نثق في من «يبدو ذكيًا» لا من يفكّر بذكاء.
فالأمية الجديدة لا ترتبط بمستوى التعليم، بل بأسلوب التلقي، وبالقدرة على التمييز.
وقد يكون من بين أكثرنا شهادات، أقلهم قدرة على الفهم النقدي الحقيقي.
القراءة التي لا تغيّر رأيك حين تستحق، ليست فهمًا.
والمعلومة التي لا تُنتج وعيًا، ليست معرفة.
والنقاش الذي لا يتّسع للرأي الآخر، ليس تفكيرًا.
نحن نحتاج ثورة في «طريقة القراءة» أكثر من «كمّ القراءة».
نحتاج أن نعود إلى البطء الإيجابي، إلى إعادة قراءة الأشياء لا تمريرها.
نحتاج أن نُربّي أبناءنا لا على حب الكتاب فقط، بل على القدرة على المقارنة، والتأمل والتحقق والتقدير.
لأن الأمية الجديدة ليست مشكلة لغة.. بل مشكلة وعي..