د. سامي بن عبدالله الدبيخي
سبق الحديث في ثلاثة مقالات منشورة في جريدة الجزيرة عن نموذج التخصيص بالشراكة بين القطاعين العام والخاص (Public Private Partnership PPP) والذي يتم اللجوء إليه لتقليل العبء المالي على الحكومات، وزيادة مشاركة القطاع الخاص وتمكينه من تقديم الخبرة والابتكار، وتسريع تنفيذ المشاريع من خلال تقاسم المخاطر وجذب الاستثمارات الأجنبية، وتحرير الجهات الحكومية من أعباء تنفيذ المشاريع ومتابعتها لتكرس جهودها للاهتمام بالعمل الإستراتيجي والتنظيم المؤسسي والإشراف؛ مما يحقق مستهدفات رؤية السعودية 2030 الطموحة برفع مستوى الخدمات العامة والبنى التحتية وتوليد الوظائف وجذب الاستثمارات والوصول للاستدامة المالية، وتعزيز الكفاءة والمنافسة والشفافية في مشاريع البنى التحتية الكبرى.
سنتناول في هذه المقالة نموذجاً آخر له أهميته في تمويل المشاريع الكبرى (مثل المترو) هو نموذج استغلال قيمة الأراضي (Land Value Capture LVC) ونستعرض في هذا الخصوص ثلاث تجارب معيارية دولية مقارنة بين هونغ كونغ (MTRC) ولندن (Crossrail) وباريس (Grand Paris Express). تُظهر هذه التجارب اختلافات واضحة في تمويل مشاريع قطارات النقل العام بالمدن، والتخطيط لها، واستغلال قيمة الأراضي LVC لاستخدام زيادة قيمة العقارات الناتجة عن تحسينات البنية التحتية.
اعتمدت شركة مترو هونغ كونغ (MTRC) في تطبيقها لنموذج LVC على ثنائية مسار المترو والملكية العقارية (Rail + Property)، حيث تم تمويل بناء وتشغيل المترو (263 كم، 96 محطة) دون الحاجة لدعم حكومي من خلال أرباح التطوير العقاري. تمتلك الحكومة الأراضي وتمنح MTRC حقوق التطوير بسعر السوق «قبل مسار المترو»، ثم تبيع العقارات بسعر «بعد مسار المترو» عبر شراكات مع مطورين. يتكامل هذا النموذج مع التخطيط الجيد بوضع معايير صارمة للكثافة السكنية والمساحات الخضراء، وحوكمة مرنة لدعم الإسكان الميسر. يعزِّز النموذج الكفاءة بفضل الخصخصة الجزئية (23 % من أسهم MTRC والتنظيم المؤسسي الجيد).
أما تجربة لندن (Crossrail) فقد تم تمويل المشروع بنسبة 30 % بنموذج LVC عبر رسوم تطوير الأعمال مع حوكمة لا مركزية بقيادة هيئة النقل مما يتيح مرونة في تصميم الأدوات المالية. يركز التخطيط على التطوير حول المحطات (مثل كناري وارف)، لكن يواجه تحديات مثل مقاومة الشركات للضرائب. على الرغم من أن الأطر القانونية المرنة تدعم LVC، إلا أن الاعتماد على التمويل الحكومي لا يزال كبيرًا مقارنة بهونغ كونغ.
أما مشروع باريس للقطارات السريعة فيعتمد بشكل محدود على نموذج LVC بنسبة أقل من 10 % عبر الضرائب ورسوم التطوير العقاري. يتميز المشروع بحوكمة شديدة المركزية تتولاها شركة باريس الكبرى بقوانينها الصارمة التي تقيد فرض الضرائب العقارية مما أفقدها الكثير من المرونة، وجعل التمويل الحكومي يغطي 70 % من التكلفة. كما أدى ضعف التنسيق بين مختلف الجهات الحكومية على المستوى الراسي والأفقي لعدم التكامل التخطيطي.
من خلال هذا العرض الموجز، يمكن القول إنه بالنظر إلى التمويل فقد تفوقت هونغ كونغ بتمويل ذاتي كامل 100 % عبر نموذج LVC، بينما اعتُمد جزئيًا 30 % في لندن وهامشيًا في باريس. أما من حيث الحوكمة فتميزت هونغ كونغ ولندن بحوكمة مرنة ساعدت في دعم LVC، بينما تسببت مركزية باريس في إعاقتها. وتفوّقت هونغ كونغ بدمج التخطيط العمراني والعقاري بكفاءة، بينما ركّزت لندن على المناطق المحيطة بالمحطات، وعانت باريس في تخطيطها من ضعف التنسيق. والنتيجة تميز تطبيق LVC في هونغ كونغ بكفاءته واستدامته، بينما ساهمت المرونة القانونية في لندن في التطبيق الجزئي له، وفشلت باريس في ذلك بسبب المركزية الإدارية.