د. رانيا القرعاوي
«إذا أردت أن يتوقف الناس عن شيطنتك، فلا تسكت عنهم» العبارة السابقة ليست مجرد عبارة، بل قاعدة بقاء في عالم الإعلام.
وهنا تبرز قاعدة إعلامية عملية يمكن تطبيقها في تحويل الحدث الفردي إلى قضية عامة بالأرقام والسياق، فالخبر المعزول يبقى حدثًا عابرًا، لكن حين يُربط بإحصاءات موثوقة وسياق متكامل، يتحول إلى قضية رأي عام تفرض نفسها على أجندة الساحة الإعلامية.
في ليلة هادئة من ليالي كامبريدج، وبينما كان يعد الأيام للعودة إلى وطنه ولقاء عائلته بعد بعثة قصيرة لدراسة اللغة الإنجليزية، قتل الشاب السعودي محمد القاسم مضرجًا بدمه إثر طعنة قاتلة في رقبته.
جريمة صادمة في أي مقياس، لكنها لم تُعامَل إعلاميًا على أنها قضية تهز الرأي العام، بل مرت في كبريات الصحف البريطانية مثل BBC وThe Independent كخبر بارد دون أي تصريحات رسمية او قصص إنسانية والأغرب أن صحيفة مثل الجارديان لم تتطرق له من الأساس.
الأكثر لفتًا للانتباه أن الجاني الذي جرى، Chas Corrigan، عُرّف للقارئ بعمره فقط، دون أي محاولة لنبش تاريخه أو شيطنته، رغم أن الادعاء وصف الحادث بأنه «هجوم غير مبرر». بل أُتيح لمحاميه الإعلان عن نية الدفاع عن النفس، وكأننا أمام جريمة لم تنه حياة انسان.
هذا التناول ليس صدفة؛ فمن يعرف كيف تعمل غرف الأخبار يدرك أن المشهد كان سيختلف جذريًا لو انعكست القصة، وكان الضحية بريطانيًا في بلد عربي، او عربي في بلد أوروبي عناوين تحذيرية، تحقيقات موسعة في ثقافة المجتمع، ربط بالدين والسياسة، وإشعال النقاشات حول الدين والعنصرية وكراهية العرب للغرب.
وفق نموذج الدعاية الذي وضعه إدوارد هيرمان ونوعام تشومسكي في كتاب تصنيع الموافقة ، والذي وضع إطارا تحليليا يوضح كيف تعمل الدعاية والتحيزات النظامية في وسائل الإعلام الرئيسية، وكيف يتم توجيه الرأي العام وتشكيله لصالح مصالح معينة؛ حيث يتكون نموذج الدعاية من خمسة «فلاتر» أو مؤثرات تلعب دورًا في عملية إنتاج الأخبار وتشكيلها هي ملكية المؤسسات، اعتمادها على الإعلانات، ومصادر الأخبار الرسمية، ردود الفعل العكسية، والأيديولوجيا السائدة، والتي يمكن أن تكون اليوم الإسلاموفوبيا؛ لتكون النتيجة انتقاء متعمدا للسياق والمعلومة، بما يخدم القصة التي نرغب بتوجيهها للجمهور المستهدف.
توضح بيانات لوزارة الداخلية البريطانية تسجيل 10.484 جريمة كراهية دينية حتى مارس 2024، بزيادة 25 % عن العام السابق، منها 3.866 حادثة ضد المسلمين، أي 38 % من الإجمالي. أما منظمة Tell MAMA فأكدت ارتفاع الاعتداءات الإسلاموفوبية بنسبة 73 % في عام واحد. ومع ذلك، غابت هذه الحقائق تمامًا عن التغطية، كما غابت سابقًا في مقتل الطالبة السعودية ناهد المانع - رحمها الله- في كولشستر عام 2014، والتي لم يتم الاستفادة منها إعلاميا بالشكل المطلوب.
والمفارقة أن في السعودية، التي يصفها كثير من الإعلام الغربي بأنها «غير محايدة»، نجد التغطيات الرسمية تتجنب شيطنة الجاني على أساس الدين أو القومية، بينما الإعلام الغربي يمارس انتقائية تتنافى مع الحياد الذي يتشدق به.
من هنا، يصبح لزامًا على الإعلام العربي أن يستفيد من استثمار مثل هذه اللحظات، لا بمجرد أخبار او نقل بيان السفارة، بل برواية متكاملة تربط الحدث الفردي بسياقه العام، وتستخدم الأرقام لتأكيد الرسالة، وتستحضر المقارنة مع ممارسات الإعلام الغربي.
كما ينبغي أن تُستغل هذه الأحداث في إبراز أمان السعودية واستقرارها، والترويج لصورتها كوجهة سياحية آمنة، وإنتاج محتوى إنساني يبرز قصص النجاح والتعايش فيها؛ فهذه المساحات التي يتركها الإعلام الآخر فارغة، يمكن أن تتحول إلى منصات لبناء الصورة وتعزيز الرواية، إذا عرفنا ان نديرها بشكل ناجح، لنصدر قصتنا التي تخدمنا قبل أن تنتشر بأسلوب غيرنا.