د.عبدالله بن موسى الطاير
هناك مقولة قديمة تقول إن «الخريطة ليست هي الأرض»، وعلى هذا النحو تكتنز الحكمة البشرية مقولات خلدها التاريخ، ومنها قول الكاتب الروماني القديم فيدروس: «ليست الأمور دائمًا كما تبدو؛ فالمظهر الأول يخدع الكثيرين؛ وذكاء القلة يُدرك ما أُخفي عنهم بعناية». وفي هذا السياق يقول المثل الإنجليزي «ليس كل ما يلمع ذهبًا». وفي الوقت الذي تشتد الحاجة فيه إلى استلهام هذه الحكم، فإننا في عصر شبكات التواصل الاجتماعي والمعلومات الفورية، نشيح بوعينا جانبا عنها. ما نراه، ونسمعه ونقرأه اليوم، سواء في السياسة أو الإعلام أو الحياة اليومية، نادرًا ما يروي القصة الكاملة، بل هو تمثيل مُنتقى بعناية للواقع، وأحيانًا مُتلاعب به. هذا النقاش ضارب بجذوره في الحضارة الإنسانية، لكنه اكتسب أهمية خاصة في الساحة السياسية، حيث يغلب التصور الحقيقة، فتنبت نظريات المؤامرة في فجوات الفهم.
عندما يتغلب التصور على الحقيقة، يصدّق الناس ما يبدو حقيقيا ويكذبون الحقيقة، إما بسبب العواطف، أو التحيزات، أو التلاعب. الدعاية بالأمس واليوم تُصمم لتوجيه الرأي العام، ونظريات المؤامرة تنتشر أسرع من الحقائق، ويستغل أصحاب المصلحة الروايات المعززة للحفاظ على المكاسب. في هذه الأثناء تعمل وسائل التواصل الاجتماعي على النفخ في الحالة، وتمدنا بصور مُبسّطة ومُبالغ فيها عن الواقع.
يقول البعض إن التهديد الأكبر ليس الأكاذيب التي تروجها شبكات التواصل الاجتماعي، بل في استعدادنا لتصديقها. نحن في الواقع لا يجب أن نتحمل اللوم على نحو مطلق أو مسلم به، فالحقائق تخسر عندما يُسلح الكذب المراد تمريره بإعادة تدويره بكثافة وتناقله على نطاقات واسعة وتحصينه ضد التشكيك والمساءلة الناقدة.
اخترع أدولف هتلر «الكذبة الكبرى»، التي تقول إن «الأكاذيب الضخمة أكثر قابلية للتصديق من الأكاذيب الصغيرة لأن الناس يفترضون أن لا أحد يجرؤ على اختلاق شيء بهذه الجرأة». خذ على سبيل المثال برنامج MKUltra، التابع لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية في النصف الثاني من القرن الماضي، الذي قام على تجارب للتحكم في عقول المواطنين بدون علمهم باستخدام أدوية وتقنيات نفسية خطيرة. كشفت الوثائق التي رُفعت عنها السرية عام 1975م عن حقيقة ذلك البرنامج المروعة، بما في ذلك الوفيات والانتهاكات الأخلاقية. وبالمثل، منعت دراسة توسكيجي لمرض الزهري، التي أجرتها هيئة الصحة العامة الأمريكية العلاج عن الرجال السود في المدة بين عامي 1932 و1972م لأغراض «البحث العلمي» مما سمح للمرض أن يفتك بهم. في البداية، وصفها المشككون بأنها مؤامرة، إلا أن كشفها لاحقا أثار غضبًا عارما. وفي حرب فيتنام، اعترف ليندون جونسون سرا بعبثية الحرب، لكنه رسم في تصريحاته المعلنة صورة النصر الوشيك، مما أدى إلى مقتل أكثر من 58 ألف أمريكي. السردية القوية والممكنّة تجتاح العقول وتوجه الجماهير، لكن كشف زيفها لاحقا يعطي شرعية لنظريات المؤامرة، مما يُوسّع فجوات المعرفة.
اليوم، تُغذّينا خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي بنسخ من الواقع مُصمّمة خصيصًا للتماهي مع تحيزاتنا؛ فمقطع فيديو فيروسي قصير يمكن أن يجند الملايين من البشر في لحظة انتشاره، وحين يظهر السياق الكامل للقصة يكون السم قد استشرى في جسد المجتمع، ولا يتعرض للتصحيح سوى نسبة ضئيلة ممن فتك بهم في لحظة الترويج له. أصحاب المصلحة يدركون هذا جيدًا؛ فصورة مُضلّلة واحدة، مثل تجمع حاشد ملئت الفراغات فيه عن طريق الفوتوشوب أو الذكاء الاصطناعي المعزز لإخفاء المساحات الفارغة، يضخم مشهد الحشد الميداني، ويكون رأيا عاما يدفع بالناس إلى الشوارع بشكل سريع وأكثر فعالية من الحقائق التي تعلن لاحقا.
عندما لا تبدو الصورة كما هي عليه، تزدهر نظريات المؤامرة بسبب نقص الروايات الرسمية أو تأخرها، مثل تلك المحيطة باغتيال الرئيس كينيدي، أو هجمات 11 سبتمبر، حيث يتعارض الشعور الغريزي مع الرواية الرسمية. حركة «كيو أنون» مثلا تزعم بوجود «دولة عميقة»، جاذبة الملايين إلى روايتها التي تعتمد في تمريرها على ما أخفته الروايات الرسمية طويلا. البعض يقول إن المجتمعات المتقدمة عصية على الاستدراج، إلا أن دراسة أجريت عام 2022م وجدت أن 56 % من الأمريكيين يؤمنون بنظرية مؤامرة رئيسية واحدة، على الأقل، ذات ارتباط بالاستقطاب السياسي بين الحزبين. التصديق بوجود دولة عميقة تُدبر الأمور تستهوي العقل والشعور، لأن البديل هو الفوضى التي هي أشد رعبًا من المؤامرات الخفية.
يا ترى هل سيأتي علينا حين من الدهر نقول إن الصورة في الشرق الأوسط لم تكن كما بدت لنا، وأنها كانت قناعا يخفي حقائق أجدر بالتصديق؟ وهل سيأتي يوم نقول فيه «أكلنا يوم أكل الثور الأبيض»؟ وإلى أي مدى يمكننا في هذا الواقع المرير اللجوء إلى مقولة: «إذا صدق عدوك شيئًا خاطئًا، فدعه يصدقه، ولكن لا تخدع نفسك أبدًا»؟