د.عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
تعهد دونالد ترمب بإعادة المصانع والوظائف إلى أمريكا تحت شعار أعيدوا عظمة أميركا، فهو يرى أنه لن يظل صامتا أمام تآكل قطاع التصنيع الأمريكي وتحول الصين إلى مصنع الكوكب، لكن السؤال المطروح هل يمكن للتعريفات وحدها أن تعيد ما ضاع خلال عقود من الزمن أم أنها مجرد شعارات أقوى من الواقع.
محور أجندة ترمب إعادة الوظائف إلى أمريكا، ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى انخفاض الوظائف في قطاع التصنيع بالولايات المتحدة إلى 12.9 مليون وظيفة من ذروته في أواخر القرن العشرين عند 19.4 مليون وظيفة، انخفضت حصة الولايات المتحدة من الناتج الصناعي العالمي إلى 17% مقارنة ب25% عام 1990.
بسبب أن إنتاج الولايات المتحدة من أشباه الموصلات حوالي 12% في العالم انخفاضا من 37% في التسعينيات، ونحو أكثر من 95% من الملابس يتم استيرادها، ويتم تصنيع جميع الجوالات الذكية في الخارج، أدى نقلها إلى الخارج وبشكل خاص إلى الصين عندما انضمت إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001 عرفت بصدمة الصين.
يرى ترمب أنها ساهمت في نهضة الصين سريعا على حساب أمريكا، فبعد أن كان الناتج الصيني 9% عام 2004 أصبح 29% في عام 2023 متجاوزة الولايات المتحدة بفارق كبير جدا، ما يجعل الولايات المتحدة عرضة للاضطرابات الخارجية، كما في زمن جائحة كورونا أدت إلى اختناقات إمداد الرقائق، وذلك بعد عقود من الاعتماد على سلاسل التوريد العالمية القائمة على نظام الإنتاج حسب الطلب.
حولت العديد من الشركات مصادر توريدها من الصين إلى دول أخرى منخفضة التكلفة مثل نقل أبل صناعة الهواتف من الصين إلى الهند بنحو 65% بدلا من إعادة توطين التصنيع في الولايات المتحدة، ما جعل ترمب يهدد أبل برسوم جمركية على واردتها بنحو 25%، رفع العجز التجاري للولايات المتحدة إلى 945 مليار دولار في 2022 من 679 مليار دولار في 2016، وبلغ عجز الميزان السلعي فقط نحو 1.19 تريليون دولار.
جعل الولايات المتحدة تتبنى خيار المنافسة الاستراتيجية بدلا من سياسة الشراكة الاستراتيجية التي سادت بعد نهاية الحرب الباردة، لأن أمريكا ترى أن الصين تسعى نحو تهديد طبيعة النظام الدولي القائم، وتحولها إلى قوة لتعديل هيكل النظام الدولي الذي رعته الولايات المتحدة، من أجل ذلك تسعى الولايات المتحدة إلى استعادة التوازن الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط ومنطقة الخليج بشكل خاص، وهي تود إعادة الاعتبار لسياسة الشراكة والتوازن في إطار النظام الآحادي القائم، ووقف نطاق التنافس الجيوسياسي الصيني الذي يهدف إلى إضعاف الولايات المتحدة والتحرك نحو مركز النظام، لأن الصين ترى أن هناك توازن قوة قادم وهو حقيقة تتأكد مع الوقت، وسيعطيها سلطة في تشكيل بعض قواعد النظام العالمي، على الأقل رفض بعضها، سيفضي إلى ظهور قطب جديد كالصين يمنح القوتين خيارات أكبر مما كانت عليه في حقبة القطب الواحد. لذلك ترى الولايات المتحدة أن هناك حاجة في إعادة رسم خرائط التصنيع من جديد، للتغلب على الاضطرابات التجارية إلى الضغوط المناخية، ومن ندرة الموارد إلى الحاجة إلى التقنيات الذكية، وإبقاء المزايا الاقتصادية والتفوق التكنولوجي لصالح الولايات المتحدة، وهي تحديات تمثل تهديدات حقيقية، تفتح المجال لإعادة ابتكار سلاسل إمدادات.
تستثمر السعودية هذا التنافس الاستراتيجي بين القوتين باحتلالها الموقع الجيوستراتيجي المتوسط من أن تحتل مركزا صناعيا يغذي بقية أنحاء العالم، وبشكل خاص تكون رائدة في إنتاج الطاقة النظيفة والمستدامة، وهي قادرة على صياغة نماذج تصنيع أكثر مرونة واستدامة وأكثر قدرة على التكيف، والنجاح لم يعد من نصيب فقط الأقوى أو الأكبر، بل يكون من نصيب الأسرع، ومن يمتلك المقومات الجيوستراتيجية، والأجرأ في إعادة رسم خرائط التصنيع من جديد.
يتجه التصنيع في نيوم في رحلته نحو التميز في التصنيع عبر نهج التصنيع المتقدم والنظيف، لتتمكن الصناعة من دمج المفاهيم الصناعية الحديثة وأساليب الثورة الصناعية الرابعة مع أنظمة الإنتاج القائمة لتصل الصناعة في نهاية المطاف في نيوم إلى الميزة التنافسية.
إعادة التصنيع نموذج إنتاجي يعيد تشكيل مستقبل الصناعة، خصوصا في عالم تتسارع فيه وتيرة الاستهلاك، وتتصاعد فيه وتيرة المخاوف بشأن ندرة الموارد والتأثيرات البيئية السلبية، لذلك برزت بقوة نهضة إعادة التصنيع إلى الوطن، وهي حركة تعيد فيها الشركات الأصلية خصوصا في ظل مواجهة الشركات لتعقيدات سلاسل التوريد العالمية، تقدم إعادة التصنيع إلى الوطن بديلا جذابا يعد بكفاءة التكلفة، ومرونة أكبر، ومواءمة مع توقعات المستهلكين، فترمب يعول على حجم السوق المحلي للولايات المتحدة، وكذلك السعودية تعول على موقعها الجيوستراتيجي بين ثلاث قارات، بيئة جاذبة للشركات التي تبحث عن فرص مواتية نتيجة هذا الصراع بين القوتين.
تعد إعادة التصنيع او خلق التصنيع خيارا استراتيجيا، فإذا عطلت التوترات الجيوسياسية سلاسل التوريد العالمية بشكل غير مسبوق أثناء جائحة كرونا لدى الولايات المتحدة بحكم بعدها وتأخير في الشحن وزيادة في التكاليف، فكما تم إعادة النظر في تقريب الإنتاج من الوطن لتقليل الشركات والدولة للمخاطر فهي فرصة للسعودية لجذب هذه الشركات لتصنيع جزء من إنتاجها في السعودية، باعتباره قرارا تجاريا استراتيجيا، خصوصا وأنها تتميز بوفورات طويلة الأجل تأتي من انخفاض تكاليف الشحن والتعريفات الجمركية وتجنب تقلبات أسعار العملات، بالإضافة إلى أن السعودية تتجه نحو امتلاك التطورات التكنولوجية في الأتمتة وعمليات التصنيع المعتمدة على الذكاء الاصطناعي تجعل من الإنتاج أكثر تنافسية، مما يقلل من فارق تكلفة العمالة مع الدول ذات التكلفة المنخفضة.
** **
- أستاذ الجغرافيا الاقتصادية والسياسية بجامعة أم القرى سابقا