مرفت بخاري
ثمة لغة لا تُقال، لا تُكتب، ولا تُترجم، لكنها تُسمَع جيداً...
هناك صوت خافت يسكن خلف الكلمات، خلف الضحكات، خلف المجاملات المُتقنة. نبرة لا يسمعها من يملكون آذانًا، بل من يملكون قلوبًا تقرأ ما لا يُقال. نحن لا نحتاج دومًا إلى دليل كي نعرف إن كان القلب صادقًا، يكفي أن نصغي بأرواحنا.
النية لا تختبئ طويلًا، وإن تخفّت خلف الأقنعة، تفضحها نظرة، يهزها ارتباك، يخذلها التوقيت...
نحن نشعر، ببساطة نشعر، وحين نشعر، نصدق ما يُقال لنا بلا صوت.
نوايا الناس لا تُرى بالعين، لكنها تُشعر بالبصيرة. هذا الإحساس ليس خرافة، ولا وهمًا هشًّا، بل هو إرث القلوب الصافية التي لم تفقد إيمانها بذاتها، تلك التي ما زالت تؤمن أن النور يفرّق بين الكذب والصدق، حتى وإن تشابهت الكلمات.
لسنا بحاجة إلى براهين لنصدّق أحدهم، لكننا نحتاج فقط أن نُصغي بصدق إلى ذواتنا، ألا نخون حدسنا، ولا نصمّ آذان أرواحنا حين تهمس لنا بالحذر... أو بالأمان.
ولعلّ أوضح ما يُجسّد هذه البصيرة الربانية ما حدث مع أم موسى، تلك المرأة التي وضعت ابنها بين يدي النهر لا بين يدي الناس، مطمئنة لقلبها رغم ارتعاشه، مستسلمة لحدسها رغم قسوته. لم يكن ذلك سوى إلهامٍ سكن في فطرتها، لأنّ الله إذا أراد نجاة نبيّ، اختار قلب أمّه وسيلة.
ثم تأمّل آمنة بنت وهب، والدة خير الخلق، محمدٍ صلى الله عليه وسلم. شعرت بعظمة ما تحمله في رحمها، فبشّرها الله بنورٍ خرج منها وأضاء قصور الشام. لم تكن تعلم أنها ستنجب نبيًا، لكنها شعرت. والحدس عند الأمهات لا ينتظر البراهين.
ولا ننسى أم الإمام الشافعي، التي آمنت به وهو طفلٌ يتيم، فقير، لا يملك شيئًا سوى دعائها ودفعها له نحو العلم، فصار به أحد أئمة الدنيا في الفقه والعقل. كانت تراه حين لم يره أحد. وهكذا تفعل الأمهات دائمًا... يرين ما لا نراه فينا، ويحملننا حتى نبلغ ما لا نقدر عليه وحدنا.
ذلك الحسّ ليس دربًا من المبالغة، بل أثرٌ من نورٍ مودَعٍ في الأمهات، كما حدث مع فاطمة الزهراء حين جلست أمام أبيها في لحظاته الأخيرة، فبكت حين همس في أذنها، ثم ضحكت. لم تُخطئ تأويل عينيه، ولم تنتظر شرحًا... هي فقط شعرت، ففهمت.
ويتجلّى هذا الحسّ العجيب في أشدّ لحظاته حين تحذّرك أمك من أحدهم. لا تظنّ أن كلماتها جاءت من فراغ، هي لا تملك الدليل، لكنها تملك القلب الذي خُلق ليشعر عنك، والعين التي ترى حين تغشى عيناك ضباب الثقة أو الوهم.
فلا تظن أن بلوغك أو نضجك يغنيك عنها، فالكِبر لا يُلغي حاجتك إلى بصيرتها، ولا يُسقط حاجتك لمشورتها.
وليس من باب البر وحده تُصغي إليها، بل من باب النجاة. والذي نفسي بيده، إن الأم لا تشير إلا بما فيه منفعتك، فقد جُبلت على العطاء منذ اللحظة الأولى التي احتضنتك فيها رحمها، وستظل تعطيك، تهبك، حتى آخر نفس في حياتها.
فلا خاب من استشارها، ولا هوى من سار على نور دعائها، ولا ضاع من آمن أن قلب أمه، هو أول نبيٍّ في حياته...
وأصدق من يهمس له:
(هذا الوجه لا يُطمأن إليه... وهذا الطريق، آمِن).