كوثر الأربش
التحضر ليس مجرد عمران يمتد إلى الأفق، ولا التطور التنموي أرقامًا جافة في تقارير المؤسسات، ولا الإتيكيت قواعد جامدة للسلوك، بل هي أبعاد متداخلة لجوهر واحد: صناعة مجتمع راقٍ قادر على صياغة مستقبله بثبات وأناقة. وكما قال رالف والدو إيمرسون: «السلوك الحسن هو فن جعل من حولك يشعرون بالراحة». هذا الفن حين يقترن بالتخطيط الحضري الواعي ورؤية التنمية الشاملة، يصنع مدنًا ليست فقط صالحة للعيش، بل ملهمة للعالم من حولها. فالتحضر الواعي يروي قصة الإنسان قبل أن يروي قصة الحجر، ويصنع بيئة تدفع بالسلوك الإنساني نحو الانسجام مع النظام العام والجمال المشترك. وقد لخّص المعماري جان نوفيل هذه الفلسفة حين قال: «المباني العظيمة هي التي تروي قصصًا عن الناس أكثر مما تروي عن نفسها».
إن التطور التنموي هو المحرك العميق الذي يغذي هذا التحضر، ليس بارتفاع ناطحات السحاب وحدها، بل بارتفاع قيمة الإنسان وقدرته على الإنتاج والإبداع. التنمية ليست مجرد زيادة في الدخل أو ضخ للأموال، بل كما ورد في تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية: «التنمية هي توسيع خيارات الناس، لا مجرد زيادة دخلهم». وحين يتجذر الإتيكيت كسلوك جماعي، يصبح من عناصر رأس المال الاجتماعي الذي يحافظ على الانسجام ويزيد من كفاءة الأداء العام، فيحترم الأفراد أوقاتهم وأوقات غيرهم، ويحافظون على البيئة المشتركة، ويتعاملون مع بعضهم بأدب يختصر الكثير من الاحتكاكات السلبية.
الإتيكيت هنا ليس رفاهية ولا مظهرية سطحية، بل منظومة قيم عملية تمثل البعد الإنساني للتقدم. المدن المتحضرة لا تعيش على القوانين فقط، بل على ثقافة الالتزام بها، من احترام الطوابير، إلى آداب الطريق، إلى الحفاظ على النظافة العامة، وصولًا إلى أسلوب التخاطب في الفضاءات المشتركة. وكما قال هنري جيمس: «ثلاث كلمات تلخص جوهر الإتيكيت: اللطف، اللطف، ثم اللطف».
وهنا تتجسد تجربة الرياض في ظل رؤية السعودية 2030 وبرنامج جودة الحياة، الذي لم يكتفِ بتحويل العاصمة إلى مركز عالمي للثقافة والترفيه والاقتصاد، بل عمل على خلق بيئة حياتية متكاملة تُشجّع على التحضر وتحتضن السلوكيات المدنية الراقية. مشاريع مثل الرياض الخضراء، وتطوير المسارات السياحية والثقافية، وتحسين المشهد الحضري، لا تسعى فقط لتجميل المكان، بل لتأسيس نمط حياة يعكس مستوىً من الوعي يجعل من الرياض مدينة تمتلك القوة الاقتصادية والروح الإنسانية في آن واحد. فالمكان الذي يعتني بتفاصيله الجمالية والإنسانية هو مكان يسهل فيه أن يعيش الناس في انسجام، ويشعر فيه الزائر بأن جودة الحياة ليست شعارًا، بل تجربة ملموسة.
إن التحضر بلا تنمية ليس سوى واجهة خاوية، والتنمية بلا إتيكيت آلة بلا روح، أما حين تتكامل هذه الأبعاد الثلاثة، كما يحدث في الرياض اليوم، فإن المدينة تتحول من مجرد مساحة جغرافية إلى كيان نابض بالحياة يعكس طموح الأمة ورقيها. وكما يقول المثل الإنجليزي: «المدينة هي مرآة أهلها».