خالد محمد الدوس
يشهد عصرنا الحالي تحولات جذرية رهيبة في طبيعة التفاعلات الاجتماعية بسبب التطورات المتسارعة في مجال الذكاء الاصطناعي، إذ لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تكنولوجية..! بل أصبح (فاعلاً اجتماعياً) مؤثِّراً بشكل عميق، في نسيج حياتنا، وفي أنماط التواصل الإنساني والعلاقات الاجتماعية.. وحتى في الهياكل والبُنى الاجتماعية، ومن هذا المنطلق يبرز دور علم الاجتماع هذا العلم «الأخطبوطي» الذي يدرس جميع الظواهر الاجتماعية كعلم خصب له ميادينه ونظرياته وأبحاثه ومقوماته العلمية.. في تحليل هذه الظواهر الجديدة في (قالبها الرقمي) وفهم كيفية تشكيل الذكاء الاصطناعي للمجتمعات البشرية المعاصرة وبناء هوياتها، ولذلك يرى علم الاجتماع الرقمي أن الذكاء الاصطناعي يشكِّل في واقعنا المعاصر قوة تحويلية تعيد صياغة وهندسة وصناعة البنُى الاجتماعية الأساسية من العلاقات اليومية إلى المؤسسات الاجتماعية الكبرى، هذا التأثير لا يقتصر فقط على الجانب التكنولوجي، بل يمتد إلى تغيير أنماط التفاعل الاجتماعي والعلاقات الإنسانية وحتى المفاهيم الثقافية السائدة في المجتمعات المعاصرة.
صحيح الذكاء الاصطناعي كظاهرة اجتماعية قبل أن يكون ظاهرة تقنية.. يحمل فرصاً هائلة لكنه يطرح تحديات اجتماعية وأخلاقية معقدة، وهنا يأتي دور علم الاجتماع كجسر بين التطور التكنولوجي، وسلامة النسيج الاجتماعي.. عبر الفهم العميق للتأثيرات المباشرة، وغير المباشرة، والعمل على التخطيط الاستباقي لضمان أن تخدم التكنولوجيا المجتمع، وكذلك الحوكمة الأخلاقية لتجنب الاستغلال، أو التهميش، وبدون هذا الدور قد يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى تفاقم عدم المساواة وتأكل التماسك الاجتماعي وفقدان البعُد الإنساني في سياق وسباق التقدم التقني، مما يعكس أهمية العلوم الاجتماعية في عصر الثورة الرقمية وإرهاصاتها.
إن التفاعل الديناميكي بين علم الاجتماع والذكاء الاصطناعي ليس خياراً رفاهياً، أو مسلكاً ترفياً، بل هو ضرورة حاسمة لفهم وإدارة التحول الجذري الذي يمر به عالمنا المعاصر بتقلباته ومتغيراته وتحدياته المستقبلية، وبالتالي يحتاج علماء الاجتماع والباحثين في ميادينه الخصبة إلى فهم منطق الذكاء الاصطناعي وتأثيراته لتحليل المجتمع المعاصر بفعالية. وبالمقابل يحتاج الخبراء ومطورو الذكاء الاصطناعي وصنَّاع السياسات إلى الرؤى العميقة التي يقدّمها علم الاجتماع حول السلوك البشري والبنُى الاجتماعية لتصميم أنظمة أكثر أخلاقية وإنصافاً وفعالية. وبالطبع فإن المستقبل يتطلب علماء اجتماع وباحثين ذوي عقلية خوارزمية مستنيرة قادرين على مواجهة تحدي افتراضات أنظمة الذكاء الاصطناعي، أي يتحول دورهم من مجرد (مراقبين) إلى فاعلين مركزيين في تشكيل ملامح المستقبل الرقمي، خصوصاً مع ولادة العديد من الفروع السوسيولوجية التي تدور في عالم الثورة الرقمية والانفجار التكنولوجي: مثل علم الاجتماع الرقمي الذي وضع أُسُسه ونشأته على أرضية علمية صلبة رائد عالم الاجتماع الإسباني (مانويل كاستليس) الذي يعد واحداً من أهم أعضاء الجيل الثاني من مدرسة علم الاجتماع في أوروبا.
ومن المسميات أيضاً.. علم اجتماع الإنترنت، وعلم اجتماع الذكاء الاصطناعي. وحتى وإن اختلفت المسميات فهي تدرس العلاقة التفاعلية بين المجتمع والتقنية وتأثيرها المتبادل بشكل عام.. كما يتطلب مهندسي ذكاء اصطناعي ذوي حساسية اجتماعية يدركون التعقيد البشري والتبعيات المجتمعية لعملهم.. فقط من خلال هذا الحوار المتعمِّق والمستمر يمكننا توجيه ثورة الذكاء الاصطناعي نحو بناء مجتمعات أكثر إنسانية وعدلاً واستدامةً، بدلاً من مجتمعات تحكمها خوارزميات عمياء.. صماء..! تعيد إنتاج أخطاء الماضي وتضخمها..!
وأخيراً في معركة تشكيل المستقبل الرقمي.. علماء الاجتماع والباحثون المتخصصون في حقوله هم «الضمير الأخلاقي».. و»البوصلة الثقافية» التي تمنع السفينة من الانجراف في (بحر) من الخوارزميات العمياء.. وبقدر ما يحتاج الذكاء الاصطناعي إلى الرياضيات وعلوم الحاسوب فهو يحتاج أكثر إلى (ذكاء اجتماعي) يذكِّر الآلة بأن الإنسان ليس مجرد رقم..! بل هو واجب أخلاقي وتقني ضروري لضمان أن يكون تطور الذكاء الاصطناعي في خدمة البشرية وتعزيز إنسانيتنا.. وليس تقليصها أو تجاهلها..!