عايض بن خالد المطيري
في كل عام، ومع إعلان نتائج القبول الجامعي، تُعاد سرد الحكاية نفسها، لكن بأبطال جدد ووجوه متفائلة تصطدم بجدران الواقع، هذا العام دخلت منصة»قبول» على الخط، كمنقذ رقمي بوعدٍ كبير توحيد القبول في الجامعات الحكومية السعودية، وتحقيق العدالة والشفافية. ومن حيث المبدأ بدا المشروع طموحًا ومنظمًا؛ أكثر من 339 ألف فرصة تعليمية، ومراعاة للفئات الأكثر حاجة، من ذوي الإعاقة، ومستفيدي الضمان، وأبناء الشهداء.لكن، كما يحدث كثيرًا في مبادراتنا، ما يبدو أنيقًا على الورق، قد لا يكون كذلك حين يواجه الواقع.
لنأخذ مثالًا بسيطًا: طالبة من وادي الدواسر، تجاور مبنى الجامعة في مدينتها، قُبلت في جامعة القصيم، وأخرى من تبوك وجدت نفسها مسجّلة في الباحة، وشاب من الدمام عليه أن يشدّ الرحال إلى تبوك، ويتيم في القصيم طُلب منه مباشرة دراسته في الأفلاج.
لا نعلم إن كانت هذه «رحلات علم» أم اختبارات صبر، لكن المؤكد أن خلف هذه التنقلات القسرية أسرًا تثقلها التكاليف، وطموحات تربكها المسافات ومخاطر الطرق، وقلوبًا صغيرة تحاول أن تفهم لماذا لم يكن العلم أقرب؟
تقول المنصة: إنها حيادية، والمؤشرات الرقمية تدعم هذا القول. ولكن، هل تعني العدالة فقط الحياد الإلكتروني؟ هل يُعدّ قبول طالب في تخصص لا يريده، وفي منطقة بعيدة لا يعرفها، لأربع سنوات أو أكثر، فرصة تعليمية أم عقوبة مؤجلة؟
ثم إن الأهم من أين يدرس الطالب، وماذا سيدرس. لا تزال خريطة التخصصات في كثير من الجامعات أقرب إلى كتالوج قديم، لا يتحدث بلغة المستقبل. بلادنا تتغير، وتبني قطاعات جديدة: من الطاقة إلى الذكاء الاصطناعي، ومن الأمن السيبراني إلى التحقيقات والأدلة الجنائية، فالطلب على التخصصات يتغير باستمرار بناءً على التطورات التكنولوجية والاجتماعية والاقتصادية.
فهل يعقل أن يبقى العرض التعليمي متقوقعًا حول تخصصات لا يحتاجها السوق، بينما تئن الوزارات من قلة الكفاءات المتخصصة؟
أليس الأجدر أن تُفتح أقسام جامعية تُخرّج -على سبيل المثال- مهندسين في الفضاء، ومتخصصين في التشريعات البيئية، والتقنيات الطبية الحديثة، ومجالات الذكاء الاصطناعي، ومحققين جنائيين، ومختصين في الأدلة الجنائية.. إلخ.
ما نحتاجه ليس فقط توزيعًا منصفًا للمقاعد، بل توزيعًا ذكيًا للفرص أيضًا، والذكاء هنا يعني أن ننطلق من سؤال بسيط: ماذا تحتاج السعودية في 2030 وما بعدها؟
لنبنِ الجامعات على هذا السؤال، لا على الجغرافيا، ولا على المجاملات، ولا على تخريج أقسام تقليدية لا مستقبل لها.
لا شك أن منصة «قبول» خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها تبقى أداة، لا غاية. والوزارة أمام تحدٍّ حقيقي كيف تُحوّل العدالة الرقمية إلى عدالة تعليمية ومعيشية؟ كيف تجعل من الجامعة محطة انطلاق، لا محطة انتظار؟
السؤال الآن لم يعد عن القبول فقط، بل عن المستقبل. وكل طالب وطالبة، وكل ولي أمر لا يطمحون إلى مجرد مقعد، بل إلى مقعد يقود إلى غدٍ حقيقي.