عبدالوهاب الفايز
مساء الأحد الماضي، وأنا أتابع مداخلات مجلس الأمن حول فلسطين، تعززت القناعة أن المجلس مجرد منصة لـ(المناحة الدولية). والسخرية المرة أنّ الخطباء في هذا المنبر- وحتى في منبر الأمم المتحدة - دوماً يطالبون (المجتمع الدولي) بالتدخل لفرض مبادئ العدالة والمساواة وحماية الشعب الأعزل.. وووو! أين يقع هذا المجتمع الدولي، أين هو؟ إنه أمريكا!
سلوك أمريكا مع الأمم المتحدة ومع النظام الدولي المعاصر يذكرنا بالمثل الشعبي: «اذا انت رايح، كثّر الفضايح». السياسة الأمريكية الحالية، وغطرسة القوة تحمل مؤشرات أفول القوة وإرث الهيمنة، وهذه حال القوى العظمى في مرحلة انحدارها.
بعنوان (نهاية القرن الأمريكي الطويل.. ترامب ومصادر القوة الأمريكية) قدم روبرت كيوهان وجوزيف ناي أحدث الأطروحات الفكرية المتتابعة التي ترى تراجع أمريكا. في مقال نُشر في (مجلة ألفرن أفيرز 2 يونيو 2025) يريان «إن استمرار السياسة الخارجية الحالية للرئيس ترامب من شأنه أن يضعف الولايات المتحدة ويسرع من تآكل النظام الدولي الذي خدم العديد من الدول جيدًا منذ الحرب العالمية الثانية - والأهم من ذلك كله، الولايات المتحدة».
وأبرز مؤشرات تراجعها ربما نجدها في موقفها في مجلس الأمن الدولي، منذ أن تأسس المجلس عام 1945، كان الهدف المعلن هو حماية السلم والأمن الدوليين وفق ميثاق الأمم المتحدة، وإرساء نظام عالمي يضمن المساواة بين الدول، بغض النظر عن حجمها أو قوتها. لكن ما جرى في العقود الأخيرة، وتحديدًا في المأساة الإنسانية في غزة، يكشف أن هذا المبدأ قد تآكل بشكل كبير بفعل هيمنة الدول الكبرى على القرار الأممي، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
أعتقد أن هذا المثل يقدم نظرية بديلة لفهم سلوك الدول، فالأمثال الشعبية تحمل في طياتها قدرًا من الحكمة المختزلة، وتكشف أحيانًا عن أنماط سلوك بشري تتكرر في كل مكان وزمان. وهذا المثل العربي الشهير: «اذا انت رايح كثّر الفضايح» أحياناً نتداوله كدعابة من دراما الحياة اليومية، لكنه في جوهره توصيف عميق لظاهرة سياسية معروفة: عندما يدرك طرف ما أنه على وشك خسارة موقعه أو نفوذه، يصبح أكثر جرأة واندفاعًا، وأقل حرصًا على الحفاظ على العلاقات أو السمعة.
اليوم، ونحن نراقب السياسة الأمريكية، يبدو أن هذا المثل الشعبي يصلح مفتاحًا لفهم كثير من قرارات واشنطن، ليس فقط تجاه خصومها، بل حتى تجاه أقرب حلفائها. وأمريكا لا تنفرد بهذا السلوك.
التاريخ مليء بالأمثلة على أن القوى العظمى، عندما تشعر بتآكل نفوذها، تتحول إلى سلوك أكثر حدة مع الأطراف المحيطة بها: الإمبراطورية البريطانية في النصف الأول من القرن العشرين، حين شددت قبضتها على المستعمرات وأثقلت كاهلها بالضرائب، حتى على حلفائها التجاريين، في محاولة لتعويض الخسائر الاقتصادية.
فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، حين فقدت نفوذها الاستعماري، أعادت فرض وجودها العسكري والسياسي بقوة في شمال أفريقيا، ما أدى إلى أزمات دبلوماسية مع شركاء سابقين. وفرنسا مستمرة حتى الآن في عقاب مستعمراتها المتمردة. وحتى الاتحاد السوفيتي في سنواته الأخيرة، زاد من ضغوطه على دول الكتلة الشرقية بدل احتوائها بالحوافز، فكانت النتيجة تسريع الانهيار.
القاسم المشترك بين هذه الحالات هو أن (القوة الآفلة) تصبح أكثر قسوة على الأطراف الأقرب لها، وكأنها تقول: طالما نحن في طريقنا للخروج، فلنخرج بشروطنا حتى لو أرهقنا الجميع، وهذا بالضبط ما يعبر عنه المثل الشعبي.
في واشنطن اليوم تنكشف نزعات الهيمنة، وتتآكل المصداقية. وهذا يجعلنا، كما قلت في مقال سابق، نتأسف على حالة أمريكا لأننا نعرف أن الأمة الأمريكية مازال لديها الكثير من المساهمات الإيجابية التي تقدمها للبشرية. أمريكا ليست قوة عسكرية واقتصادية فقط، بل قوة علمية. لديها الابتكار النوعي في الصحة والتعليم والبيئة، وغيرها.
بالإضافة إلى موقفها غير الأخلاقي وغير الإنساني من أحداث غزة، والذي يقدم كمؤشر على تراجع أمريكا، هناك مؤشرات واضحة تعزز التراجع النسبي مثل صعود الصين كمنافس اقتصادي وتكنولوجي. ونزاع أوكراني روسي مسلح يقدم على أنه خروج عن النظام الدولي نتيجة سياسات واشنطن التي أوجدت الدوافع الجيوسياسية التي أدت لهذه الحرب المدمرة للبلدين، ولاقتصاد أوروبا. وهناك مؤشر تزايد استقلالية حلفاء أوروبيين في ملفات الطاقة والسياسة الخارجية.
أمام هذا المشهد، بدلاً من اعتماد سياسة احتواء ذكية تحفظ التحالفات، نرى واشنطن تميل إلى فرض الشروط والإملاءات، حتى على شركائها: الضغط على أوروبا لزيادة الإنفاق الدفاعي في الناتو تحت تهديد تقليص الحماية الأمريكية.
وكذلك فرض سياسات تجارية حمائية ضد واردات الحلفاء بدعوى حماية الأمن القومي. وأيضاً انتقاد علني ومباشر لبعض الأنظمة الصديقة في ملفات حقوق الإنسان، حينما تتعارض سياساتها مع المصالح الأمريكية.
هذه الممارسات، في سياق تراجع الهيمنة، تجعل صورة واشنطن لدى حلفائها أقل جاذبية، وتدفعهم للتفكير في خيارات بديلة، وهذا نسمعه الآن من أغلب الدول الكبرى، وآخرها الهند التي قررت أمريكا معاقبتها على شراء النفط الروسي.
حالة الهند، وقبلها كندا، والسرعة في تحويل الأصدقاء إلى خصوم، يعكسها جيداً أيضاً هذا المثل الشعبي «اذا انت رايح كثّر الفضايح». إنه يعني، في عالم السياسة، أن القوة الآفلة لم تعد تبالي إذا أحرجت أصدقاءها أو أضعفتهم، ما دام ذلك يحقق مكاسب قصيرة المدى. والمثال الأوضح الآخر هو ملف الطاقة الأوروبي بعد الحرب الأوكرانية: واشنطن دفعت الأوروبيين بسرعة للتخلي عن الغاز الروسي، لكن البديل كان الغاز الأمريكي بأسعار أعلى. فرضت عقوبات موسعة على روسيا أضرت بالاقتصاد الأوروبي بقدر ما أضرت بموسكو، بينما حققت الشركات الأمريكية أرباحًا قياسية.
حتى في الشرق الأوسط، حيث التحالفات راسخة منذ عقود، أظهرت السياسة الأمريكية في السنوات الأخيرة توجهًا أقرب إلى منطق المثل الشعبي: دعم حلفاء في ملفات معينة، ثم ممارسة ضغط شديد أو تقييد في ملفات أخرى، وكأن الرسالة: إما أن تسيروا في الركب، أو سنكشف أوراقكم أمام العالم.
ونأتي إلى الجمرة المحرقة لسمعة أمريكا: غزة!
هنا خسارة أخلاقية قبل أن تكون سياسية، فالدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل واستخدام الفيتو في مجلس الأمن لتعطيل أي قرار بوقف إطلاق النار، أو فتح الممرات الإنسانية، كشف جانبًا آخر من «الفضائح» بالمعنى الرمزي: صور الدمار والمجاعة بين الأطفال في غزة تناقض تمامًا خطاب واشنطن عن حقوق الإنسان. الحلفاء التقليديون في أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا بدأوا يعبرون عن استيائهم العلني من الموقف الأمريكي. وأمريكا لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم!
هنا، لم تعد القضية مجرد خلاف سياسي، بل تحولت إلى أزمة ثقة ومصداقية عالمية. كثيرون الآن يرون أن الولايات المتحدة، التي طالما نصّبت نفسها حكمًا على قضايا العدالة الدولية، تظهر أمام العالم وكأنها تكيل بمكيالين، وهذا يضعف مكانتها حتى في عيون أصدقائها، قبل أعدائها.
هل مازال المثل الشعبي كافيا ومقنعا لفهم السياسة الكبرى؟
نقول تقريبا نعم: فهو يصف ديناميكية نفسية واجتماعية تنطبق حتى على مستوى الدول، فالطرف الذي يشعر بفقدان السيطرة يميل إلى فرض إرادته بقسوة، حتى على المقرّبين، لأنه: (لم يعد لديه ما يخسره!). أيضاً المتراجع قد يختار كشف الأوراق ورفع السقف في المفاوضات، أو حتى إحراج الشركاء، طالما أن الرحيل أو التراجع أمر لا مفر منه.
واشنطن اليوم، في بعض سياساتها، تمارس هذا النمط. وربما تعتقد أن هذه الجرأة تحمي ما تبقى من نفوذها، لكنها في الحقيقة تدفع الحلفاء للتساؤل عن جدوى الارتباط بها في المدى البعيد.
أعتقد أن المثل الشعبي يلخص في جملة ما تثبته دراسات العلاقات الدولية: القوى العظمى في مراحل الأفول تميل إلى سياسات قصيرة النظر تضر بمكانتها الإستراتيجية.
الأمر المؤكد أن الولايات المتحدة ليست على وشك الانهيار، لكنها بلا شك تمر بمرحلة تراجع نسبي، وإذا استمرت في التعامل مع أصدقائها بعقلية «الإملاء» و»التهديد»، فإنها تسرع من وتيرة هذا التراجع.
في النهاية، القوة الحقيقية لا تُقاس فقط بالقدرة على الضغط، بل بقدرة الحلفاء على الثقة والاستمرار. ومن يفقد الأصدقاء في لحظة ضعفهم، لن يجدهم حين يحتاجهم لاحقًا - وهذه حكمة يعرفها الإنسان البسيط حين صاغ المثل، قبل أن يكتشفها خبراء الجغرافيا السياسية والعلاقات الدولية في كتبهم.
الحكمة تؤخذ من أفواه الحكماء.. وحتى من البسطاء، ومن المجانين!