د. محمد بن أحمد غروي
تحتفل سنغافورة هذا الشهر بذكرى مرور ستين عامًا على استقلالها، وهي مناسبة كبرى أعدّت لها الدولة الصغيرة على الخريطة، الكبيرة في تأثيرها، باحتفالات وطنية وفعاليات رياضية وثقافية عالمية، تجسيدًا لمسيرتها المبهرة منذ عام 1965، وعلى الرغم من قِصر عمرها، نجح هذا البلد في اجتياز محطات مفصلية صنعت نهضتها الاقتصادية والتكنولوجية والتعليمية، لتصبح لاعبًا بارزًا في الساحة الإقليمية والدولية.
منذ لحظة استقلالها، تبنّت الدولة رؤية جريئة قوامها الاستثمار في الإنسان، في وقت لم يتجاوز عدد سكانها 1.8 مليون نسمة، ودون أي موارد طبيعية تُذكر، وقد أعلن مؤسس نهضتها ورئيس وزرائها الأول، لي كوان يو، أن المورد الطبيعي الوحيد المتاح هو «الشعب»، لتبدأ رحلة بناء منظومة تعليمية متينة هدفها تزويد الاقتصاد الناشئ بعمالة ماهرة قادرة على دفع عجلة التصنيع وتقليل البطالة.
وبمرور أقل من عقدين، تحوّل الاقتصاد السنغافوري من التركيز على الكم إلى الجودة في التعليم، مع إنشاء برامج متخصصة للطلاب الموهوبين، وتطوير السياسات التعليمية بما يواكب احتياجات سوق العمل، ومنذ أواخر الثمانينيات، اتجهت سنغافورة نحو اقتصاد قائم على رأس المال والتكنولوجيا، مبتعدة عن نموذج الاقتصادات ذات الأجور المنخفضة والمهارات المحدودة.
اليوم، تحصد سنغافورة ثمار هذه الرؤية، إذ تصدّرت مؤشرات عالمية عدة، فجاءت رابعة عالميًا في مؤشر الابتكار العالمي 2024، وحققت معدلات عالية في القراءة والكتابة بلغت 97 % للسكان فوق 15 عامًا، إلى جانب احتلالها المرتبة الأولى عالميًا في تصنيف فعالية الحكومات للعام الثاني على التوالي.
وفي ظل قيادة الجيل الرابع، بقيادة رئيس الوزراء الحالي لورانس وونغ، تتأهب سنغافورة لمرحلة جديدة تركز على رفاهية المواطنين، وتمكين الشباب، والتحول نحو الطاقة النظيفة، في إطار شعار استقلال هذا العام: «سنغافورة إلى الأمام»، وقد شارك أكثر من 200 ألف مواطن في مشاورات وطنية امتدت 16 شهرًا لمناقشة قضايا العمل والشيخوخة والاستدامة البيئية، تمخضت عن خطط تعزز قيمة التعلم، وتحترم جميع المهن، وتدعم الأسر وكبار السن، مع التركيز على الأمن الغذائي والمائي، واستغلال الأراضي المحدودة بكفاءة، ومواجهة تغير المناخ.
ومن أبرز مبادراتها «خطة سنغافورة الخضراء 2030» التي تستهدف خفض الانبعاثات عبر كهربة أساطيل المركبات، وتخضير المباني، وتحسين كفاءة الطاقة في الصناعات، وتبني تقنيات احتجاز الكربون، واستيراد الكهرباء النظيفة، وتمنح هذه التوجهات سنغافورة موقعًا مميزًا كمركز عالمي للاستثمار التقني والأخضر، وتعزز قدرتها على المنافسة وسط التحديات الإقليمية والدولية.
ستون عامًا بعد الاستقلال، ما تزال سنغافورة تقدم درسًا في كيفية تحويل محدودية الموارد إلى محفز للابتكار والريادة، ماضيةً بثقة نحو مستقبل أكثر استدامة ومرونة، مستندةً إلى وحدة شعبها ورؤية قيادتها. وكما قال رئيس وزرائها: «سنواجه تحديات جديدة، لكننا قادرون على تجاوزها إذا تمسكنا بقوتنا ووحدتنا.»