رسيني الرسيني
تؤدي لجان الفصل في المخالفات والمنازعات الخاصة بالقطاع المالي دورًا محوريًا في تنظيم العلاقة بين الأطراف المتنازعة في قطاعات مالية شديدة التخصص. ومن بين هذه اللجان: لجان الفصل في المنازعات والمخالفات المصرفية والتمويلية، ولجان الفصل في المنازعات والمخالفات التأمينية، ولجان الفصل في منازعات الأوراق المالية، وأخيرًا لجان الفصل في المخالفات والمنازعات الضريبية. ولقد أثبتت هذه اللجان خلال السنوات الماضية فاعلية كبيرة في التعامل مع قضايا ذات طابع مالي معقد، يتطلب إلمامًا فنيًا وتشريعيًا دقيقًا لا يمكن أن يتوافر إلا لمن يمتلك خلفية علمية ومهنية عميقة في المجال، وهو ما قد يجعلها مختلفة عن القضاء العام.
وبرغم هذه الأهمية والدور الجوهري، فإن التساؤل المشروع الذي يطرح نفسه اليوم هو: أما آن الأوان لأن تُدرج هذه اللجان ضمن السلك القضائي؟ إن هذا التساؤل يستند إلى عدة اعتبارات جوهرية، أهمها الحاجة إلى تعزيز الاستقلالية الكاملة لهذه اللجان بشكل يحصن قراراتها من أي مؤثرات خارجية أو إدارية وتعزز حجية قراراتها في الدول الأخرى في حال كان أحد الأطراف جهة أجنبية. علاوة على ذلك، فإن دمج هذه اللجان ضمن السلك القضائي يُسهم في توحيد الأنظمة الإجرائية، إذ إن تعدد الإجراءات واختلافها من لجنة إلى أخرى قد يُحدث نوعًا من الإرباك أو حتى التباين في مخرجات التقاضي.
كما لا يمكن إغفال الأثر الإيجابي الذي سينعكس على بيئة الاستثمار في المملكة جراء هذا التحول. فالمستثمر المحلي والأجنبي يبحث بالدرجة الأولى عن قضاء متخصص، وسريع، ومستقل، وشفاف. وعندما يرى المستثمر أن المنازعات التي قد تنشأ له مع أطراف أخرى تُنظر من قبل جهة قضائية مستقلة ومتخصصة ومعترف بها ضمن هيكل السلطة القضائية، فإن ذلك يعزز من ثقته في النظام القانوني والاقتصادي للدولة، ويشجعه على التوسع أو الدخول في السوق السعودي، إذ إن عامل الثقة يُعد أهم عوامل جذب رؤوس الأموال، وتحسين تصنيف بيئة الأعمال في المؤشرات العالمية.
ومن جانب آخر، لا يخلو هذا التحول من تحديات حقيقية ينبغي أخذها بعين الاعتبار لضمان نجاحه واستدامته. ومن أبرز هذه التحديات هو تحدي المواءمة بين الطابع الفني التخصصي الذي يميز هذه اللجان وبين الطبيعة العامة للمحاكم القضائية. فالقضايا المالية بطبيعتها تتطلب خبراء ذوي دراية عالية بالتفاصيل الفنية الدقيقة في قطاعات مثل: البنوك، والتمويل، والتأمين، والأوراق المالية، والضرائب. الأمر الذي يتطلب الاستفادة من خبرات القانونيين المتخصصين في القطاع المالي. بالإضافة إلى الاستثمار في التدريب والتأهيل القضائي المتخصص، وإعداد برامج مهنية مشتركة بين وزارة العدل والجهات المالية، واستحداث تخصصات في الجامعات لهذا الشأن.
حسنًا، ثم ماذا؟
المملكة تشهد تطورًا تشريعيًا وتنظيميًا كبيرًا، ومن المتصور أن إدراج لجان الفصل في منازعات القطاع المالي ضمن السلك القضائي سيكون خطوة متوائمة في هذا المسار التطويري.