د. أحمد محمد القزعل
في عالمنا الحديث أصبحت الدعاية جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، فهي تحيط بنا في كل مكان سواء في الإعلانات التلفزيونية أو وسائل التواصل الاجتماعي أو حتى في الخطابات السياسية والتجارية، ومع تطور وسائل الاتصال زادت قوة وتأثير الدعاية على عقول الناس حيث لم تَعُد تقتصر على الترويج للمنتجات، بل امتدت إلى تشكيل الرأي العام والتأثير في القيم والمعتقدات، ومن هنا تبرز أهمية الوعي بالدعاية وتمييز الجيد منها من السيئ؛ لضمان التفكير الحر واتخاذ القرارات المستقلة بعيداً عن التأثيرات المضللة.
وتُعرف الدعاية بأنها أي وسيلة تهدف إلى التأثير في الأفراد أو الجماعات من خلال طرح المعلومات أو تقديمها بأسلوب معين لخدمة أهداف محددة، وهي أداة قوية تُستخدم في مجالات متعددة مثل التسويق والسياسة والتعليم...، حيث تسعى إلى توجيه تصورات الأفراد وسلوكهم، وقد تتخذ الدعاية شكل معلومات صادقة تُعرض بأسلوب مقنع أو قد تعتمد على التضليل والمبالغة لتحقيق غاياتها.
تعود جذور الدعاية إلى العصور القديمة حيث استخدمتها الإمبراطوريات لنشر نفوذها، مثل النقوش الفرعونية التي كانت تمجّد إنجازات الحكام، وفي العصر الحديث ازدادت قوة الدعاية مع ظهور وسائل الإعلام الجماهيري، مثل الصحف والإذاعة والتلفزيون، ثم بلغت ذروتها مع انتشار الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي، مما جعلها أكثر تأثيراً وانتشاراً من أي وقت مضى.
ويمكن أن تكون الدعاية أداةً إيجابية عندما تُستخدم لتعزيز القيم الأخلاقية ونشر المعرفة وتحقيق التنمية، ومن أبرز أنواع الدعاية الإيجابية:
1- الدعاية التوعوية: التي تستخدم لنشر الوعي حول القضايا الاجتماعية والصحية، مثل حملات التوعية بأهمية التطعيم أو مكافحة التدخين أو تعزيز السلامة المرورية، ومن ذلك الحملات الإعلامية التي شجعت الناس على اتباع التدابير الوقائية خلال جائحة كورونا.
2- الدعاية التعليمية: التي تهدف إلى نشر المعرفة والثقافة مثل الحملات التي تروج لمحو الأمية أو تشجيع القراءة أو دعم الفنون والثقافة، ومن ذلك المبادرات التي تدعو إلى تعليم الفتيات في المجتمعات الفقيرة.
3- الدعاية الوطنية: التي تُستخدم لتعزيز الهوية والانتماء الوطني مثل الحملات التي تروّج للسلام أو تشجع المواطنين على المشاركة في الانتخابات أو تدعم الصناعات الوطنية، ومن ذلك الحملات الإعلامية التي تحث المواطنين على دعم المنتجات المحلية.
4- الدعاية التجارية الأخلاقية: التي تستخدمها الشركات للترويج لمنتجاتها بطريقة نزيهة ومفيدة للمستهلك مثل الإعلان عن منتجات صديقة للبيئة أو حملات الشركات التي تدعم قضايا اجتماعية.
وعلى الرغم من الفوائد المحتملة للدعاية، إلا أنها قد تصبح سلاحاً خطيراً عندما تُستخدم لأغراض خبيثة، ومن أبرز أنواعها السلبية:
1- الدعاية المضللة: التي تهدف إلى خداع الجمهور من خلال تقديم معلومات غير صحيحة أو مبالغ فيها مثل الإعلانات التي تعد بقدرات خارقة لمنتجات لا تمتلكها، ومن ذلك بعض الإعلانات التجارية التي تروج لمستحضرات تجميل بوعود غير واقعية.
2- الدعاية السياسية الموجهة: التي تُستخدم لتشويه سمعة الخصوم السياسيين أو تضليل الرأي العام أو تزييف الحقائق. ومن ذلك الأخبار الكاذبة التي تُنشر خلال الحملات الانتخابية لتشويه صورة المنافسين.
3- الدعاية التحريضية: التي تستغل العواطف لإثارة الكراهية والعنف مثل الخطابات التي تحرض على التعصب الديني أو العرقي، ومن ذلك الدعاية النازية التي استخدمها هتلر لنشر الكراهية والترويج لأفكار التفوق العرقي.
4- الدعاية الاستهلاكية الجشعة: التي تخلق احتياجات وهمية لدى المستهلكين لدفعهم لشراء منتجات غير ضرورية، مثل التسويق القائم على إثارة مشاعر القلق أو النقص الاجتماعي.
هذا، وتلعب التقاليد والثقافة دوراً مهماً في تحديد مدى نجاح أو فشل الدعاية، حيث تختلف استجابة المجتمعات للدعاية بناءً على القيم والمعتقدات السائدة فيها، فقد تنجح حملة دعائية في مجتمع يؤمن بقيم العائلة، بينما تفشل في مجتمع يفضل الفردية، كذلك فإن التجربة تلعب دوراً رئيسياً فالأفراد الذين تعرضوا سابقاً لدعاية كاذبة يصبحون أكثر حذراً في تصديق المعلومات الجديدة، بينما قد يكون الأشخاص غير الملمين بالدعاية أكثر عرضة للتأثر بها؛ ولهذا السبب تعتمد الشركات والسياسيون على تقنيات متجددة وأساليب مقنعة لاستمرار التأثير على الجمهور.
ولضمان دعاية إيجابية ناجحة تحقق تأثيراً مفيداً للمجتمع، يمكن اتباع خطة تطويرية معاصرة للدعاية الإيجابية الناجحة تقوم على تقديم معلومات دقيقة وموثوقة دون تضليل أو خداع، واستخدام التكنولوجيا بذكاء واستغلال وسائل التواصل الاجتماعي للوصول إلى الجمهور بطريقة تفاعلية وجذابة، مع ضرورة التركيز على القيم الإنسانية وتعزيز الأخلاق والاحترام والتعاون بدلاً من إثارة الخوف أو الكراهية، ومن المهم التفاعل مع الجمهور وتشجيع النقاش والتفاعل بدلاً من فرض المعلومات مما يعزز الثقة والقبول، كذلك من الضروري التكيّف مع متغيرات العصر وتحديث أساليب الدعاية بشكل مستمر لتتناسب مع اهتمامات واحتياجات الجمهور المستهدف.
ومن نافلة القول: فإن تحرير العقل من الدعاية لا يعني رفضها بالكامل، بل يعني امتلاك القدرة على التمييز بين الحقيقة والخداع، وبين ما يخدم المصلحة العامة وما يُستخدم للتلاعب بنا، وفي عصر الإعلام المتعدد الآن أصبح من الضروري أن يكون لدى الأفراد وعي نقدي يساعدهم على تحليل المعلومات واتخاذ قرارات مبنية على الفهم العميق وليس العواطف العابرة، فالدعاية أداة قوية لكن كيفية استخدامها هي التي تحدد ما إذا كانت ستساهم في تطوير المجتمع أم في تضليله.