يتضايق البعض عندما تصنف الحروب بالشاملة أو المحدودة، مبررين ذلك بأن الحروب مهما اختلفت مسمياتها ومستوياتها، فهي هالكة ومدمرة للحضارات والشعوب. وفي مختلف أشكالها ستؤدي إلى الشتات وحدوث المجاعات ورفع معدلات البطالة والفقر وفقدان فرص التعليم وعواقب وخيمة أخرى.
وبينما في الواقع لو سألنا أي خبير عسكري عن وصفه الدقيق للحرب الروسية - الأوكرانية الراهنة فقد يصفها بالحرب المحدودة، لوجود علامات مبكرة فيها بداية من طبيعة النزاع وأسبابه والبعد التاريخي للعلاقات بين البلدين والأهمية الجغرافية لهذه المنطقة والمصالح الخارجية فيها. مما شكّل من الحرب الأوكرانية - الروسية حالة مشابهة لحروب سبقتها في النصف الثاني من القرن العشرين كانت توصف بالحروب المحدودة.
تعود جذور النزاع بين أوكرانيا وروسيا إلى فترة اندلاع الاحتجاجات في العاصمة الأوكرانية التي أدت إلى وقوع الثورة الأوكرانية 2014 وإسقاط النظام الحاكم في كييف الحليف التقليدي لموسكو. مما خلق حقبة جديدة من العلاقات الثنائية بين روسيا وأوكرانيا وتحولهما من حليفين تاريخيين إلى عدوين لدودين، وجعل ذلك موسكو تتخذ خطوات استباقية من خلال فرض سيطرة قواتها العسكرية على شبه جزيرة القرم الأوكرانية لحماية قواعدها البحرية ومصالحها الجيوسياسية في منطقة البحر الأسود.
كما شهد هذا الصراع تصعيدات مستمرة عبر سلسلة من الأحداث والهجمات وردود الأفعال حتى وصل لمرحلة من الاحتدام غير المسبوق متأثرة بتكرار محاولات الغرب في ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي. مما أثار مخاوف روسيا من توسع الناتو شرقا واعتبرته تهديداً لأمنها القومي ومحاولة تطويقها عبر هذه التحالفات.
وبطريقة مباشرة أدى ذلك إلى اندلاع الحرب وإعلان موسكو عن بدء قواتها لعملية عسكرية خاصة داخل الأراضي الأوكرانية في فبراير 2022، حيث لجأ فيلاديمير بوتين لمبدأ القوة في تصرفه تجاه أوكرانيا ومن يقف بجانبها استناداً إلى مفهوم إرهاب العدو وإثبات مقدرة المنظومة العسكرية الروسية على الردع المباشر ضد أية تهديدات خارجية. وبهذا السلوك يكون الرئيس الروسي عبر عن إحساسه بالخوف من تفاقم الخطر مما جعله يقدم على شن الهجمات ضد أوكرانيا قبل انضمامها لحلف الناتو، فمواجهة دولة واحدة أسهل من مواجهة حلف كامل في أرض المعركة وكما ستكون بنمط أوسع من الحرب المحدودة.
والحرب المحدودة رغم تعريفاتها المختلفة إلا أنها تشتق من اسمها صفة المحدودية بحيث تكون أقل حدة ودمار من الحرب الشاملة وتكون في مواقع محددة وتنطلق من أهداف معينة، والأهم من ذلك تشهد تحولات من رفع وخفض مستوى وتيرة الحرب، كما تتفاوت السيطرة عليها بين الجانبين.
لكنها في المقابل تتسم بصفة طول الأمد مما يزيد الخسائر البشرية والمادية وحالات التهجير واللجوء. إضافة إلى العقوبات الاقتصادية مثل التي فرضت على روسيا الاتحادية ما تقيد من حركة تجارتها الخارجية وبذلك ينخفض تدفق رأس المال الأجنبي ما يؤثر بشكل سلبي على الناتج المحلي الإجمالي.
والوضع الأوكراني ليس بأقل سوءاً فبجانب الخسائر الاقتصادية الناتجة عن تراجع صادراتها من الحبوب والمنتوجات الزراعية الأخرى. فهناك أزمة اللاجئين المتفاقمة والتي بلغت ثلاثة ملايين وستمائة ألف مهجر داخل الأراضي الأوكرانية وستة ملايين وثمانمائة ألف لاجئ في الدول المجاورة وحول العالم، حسب الإحصاءات الأخيرة الصادرة عن مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.
بعد مضي ثلاث سنوات ونصف السنة على اندلاع الحرب الأوكرانية - الروسية فالوقائع والأحداث تبرهن على أنها حرب محدودة تسير بوتيرة مختلفة، من ناحية التقدم والتراجع في جبهات القتال، ومن ناحية استخدام الترسانة العسكرية من صواريخ متوسطة أو بعيدة المدى أو حتى الطائرات المسيرة، وكذلك أنظمة الدفاع الجوي المتنوعة.
فتارة تشن روسيا هجمات على كييف تستخدم بها صواريخ متوسطة المدى مثل صواريخ أوريشنك روسية الصنع أو طائرات مسيرة من طراز شاهد الإيرانية. وتارة أخرى تقوم القوات الأوكرانية بقصف مواقع حساسة داخل الأراضي الروسية مثل المنشآت العسكرية في منطقة بريانسك بصواريخ أتاكمز التكتيكية أمريكية الصنع.
ويكمن هنا تساؤلات مهمة عن مستقبل هذه الحرب، هل ستستمر لسنوات طويلة؛ لكي تضمن موسكو عدم انضمام كييف إلى حلف شمال الأطلسي وحماية حدودها الشاسعة. وعلى الضفة الأخرى هل يسعى الغرب وفي مقدمته واشنطن إلى تقييد موسكو وانشغالها في حماية سيادتها الداخلية للحد من أي توسع خارجي لها. والأهم من هذا وذاك هل هناك رابح في هذه الحرب بين موسكو وكييف أم كلتاهما خاسرة؟
في النهاية ومع توجه الأنظار نحو ولاية ألاسكا الأمريكية قبيل انعقاد الاجتماع الثنائي بين دونالد ترامب وفيلاديمير بوتين يوم الجمعة، ودون الأخذ بالدلالات التاريخية لاختيار هذه الولاية على وجه التحديد لعقد الاجتماع بينهما. يظهر تساؤل آخر، هل سينجح الاجتماع في إنهاء الحرب وتسوية النزاع أم هو خيار مؤقت لتخفيف التوترات مع احتمالية تصعيدها مجددا في أي وقت وفقا لمنظور الحرب المحدودة؟
** **
- عبد العزيز بن عليان العنيزان