د. محمد بن إبراهيم الملحم
رغم الإنجازات التي حققتها المملكة العربية السعودية في مجال التعليم خلال السنوات الأخيرة، فما زال أداء المعلمين أحد الملفات التي تحتاج إلى دفعة نوعية، فكلنا نعلم أن أداء المعلم لا يحقق طموحاتنا التي نتطلع إليها لارتقاء تعليمنا إلى مصاف الدول المتقدمة، وخاصة النقص في التمكن البيداغوجي (أي طرائق التدريس وفنياته)، سوى أن حركة الدخول والخروج الكبيرة من المهنة (بسبب التقاعد والتعيين المستمر) يجلب مستجدين باستمرار للمدارس مما لا يجعل المهنة مستقرة بشكل مضمون على الدوام. ولا شك أن أداء المعلم هو هاجس كل تعليم في كل دولة، وقد أشارت المؤشرات الدولية إلى أن أبرز تلك التحديات استمرار أساليب التدريس التقليدية، وضعف التخصيص في التعليم، وقلة الوقت المخصص لتطوير مهارات المعلم. وأعتقد أن الذكاء الاصطناعي (AI) والذي هو حديث الساعة (واليوم والشهر والسنة) يمكن أن يكون أداة إستراتيجية ثمينة لتحسين أداء المعلم ورفع جودة التعليم، ولذلك أشرت في عنوان مقالتي هذه أنه «رافعة» لتطوير الأداء، وهذا التعبير يستخدم عندما لا تتحدث عن التطوير المتدرج والذي «يأخذ وقته» وإنما عن حركة ترتقي بالمجال بسرعة فهو مثل الرافعة التي ترفع شيئاً من الأرض لنجده في ثوان قد وصل إلى الدور العشرين في أعلى البرج. واستخدام الذكاء الصناعي في التعليم (وفي غيره) بات حقيقة تفرض نفسها ولا بد من مواجهتها، بل استثمارها في أسرع وقت ممكن. وسأقدم لكم تجارب بعض الدول -بإذن الله.
وأستعرض معكم اليوم تجربة إستونيا التي حققت مستوى مشرفاً جداً في الاختبارات الدولية، فقد أحرزت نتائج متقدمة في برنامج التقييم الدولي للطلبة (PISA 2022) تمثَّلت في المركز السادس عالميًا في القراءة، الرياضيات، والعلوم، وهي تتصدر دول أوروبا في تصنيف العلوم، وتتشارك المركز الأول أو الثاني في القراءة والرياضيات مع سويسرا وأيرلندا وسبق أن حققت تفوقًا في PISA 2018، حيث تصدّرت القراءة والعلوم، وحلت ثالثًا في الرياضيات وتتسم نتائجها بالاستقرار والتقدم مما يدل على متانة نظامها التعليمي، ومن أهم عوامل النجاح التربوي في إستونيا الاستثمار المبكّر في البنية التحتية الرقمية حيث بادرت بمشروع «تحوّل النمر» (Tiigrihüpe) عام 1996 قامت فيه بشبك جميع مدارس البلاد بالإنترنت، مما مهّد لانتقال سلس للتعليم الرقمي، كما أن المنهج في إستونيا لا يقتصر على المعرفة الأكاديمية فقط، بل يشمل المهارات الشخصية والإبداع، التفكير النقدي، التعلّم بالمشروع، والبرمجة للأطفال من عمر 7 سنوات وبيئتها المدرسية داعمة ومرنة حيث يشجع النظام التربوي الاستقلالية للمدارس والمعلمين، وجعْل التعليم ذي معنى للطلاب، مع ضمان تلبية احتياجاتهم. ويشمل ذلك توفير وجبات مدرسية مجانية وتشجيع الحوار المفتوح داخل الصف وهناك ثقافة وطنية تقديرية للتعليم، حيث يظهر التاريخ أن إستونيا وضعت التعليم في صلب هويتها الوطنية، ويدعمها التوجه الحكومي المستقر لتعزيز القيم التربوية عبر سياسات واضحة وتطوير مؤسساتي مدروس. ولذلك فإن إستونيا تقدم نموذجًا تربويًا يدمج بين الابتكار الرقمي، التميز الأكاديمي، والإنسانية التربوية، مما ينتج عنه نتائج دولية استثنائية. ومن خلالها يمكن للدول، استخلاص دروس قيمة حول بناء نظام تعليمي متقدم يرتكز على الاستقلالية، العدالة، والتطبيق التكنولوجي الاجتماعي.
وبالنسبة لوضعها التقني التربوي الحالي فأبدأ بأهم الأنظمة لديها فهناك eKool نظام إدارة المدارس الذي يغطي 90 % من المدارس في البلاد، ويتيح للطلاب، والمعلمين، وأولياء الأمور متابعة الجداول، الدرجات، الواجبات، الحضور، والإشعارات عبر تطبيق أو موقع ويب ونظام -Schoolbag وهو منصة تعليمية رقمية تحتوي على محتوى تفاعلي، وكتب إلكترونية، ومكتبات رقمية متاحة طوال اليوم على الأجهزة الذكية، وتمثل مبادرة AI Leap: تعاونا مع OpenAI وAnthropic لتدريب 20.000 طالب و3.000 معلم على مهارات الذكاء الاصطناعي، بدون هدف استبدال المعلم، بل دعم التفكير النقدي والوعي بالذكاء الاصطناعي، وقد تم دمج الذكاء الاصطناعي في جميع مراحل التعليم، ووفرت الدولة للمعلمين أدوات تقييم آلية وتحليلات متقدمة، مما يعتقد أنه ساهم في تحسين نتائج الطلاب في اختبارات PISA وهذه التحليلات تجعل نظام إستونيا الرقمي يتابع بيانات الطلاب بشكل يومي، مثل معدلات الإجابة الصحيحة، الوقت المستغرق في حل الأسئلة، وأنماط الأخطاء المتكررة وهو ما يفيد المعلم بتقديم تشخيص دقيق حيث يحصل المعلم على لوحة بيانات تعرض نقاط القوة والضعف لكل طالب على حدة كما أنها تقديم أيضا تخطيطا فوريا يمكن من خلاله تعديل الدروس القادمة بناءً على أداء اليوم السابق، بدل الانتظار لاختبارات نهاية الفصل كما أن للطالب يفيد من هذا النظام من خلال الدعم الشخصي الذي يتلقاه حيث يحصل على مواد إثرائية وأنشطة علاجية مخصصة له، ما يقلل من شعوره بالإحباط أو الملل خاصة للطلاب غير المتقدمين وهو ما يؤدي إلى تعزيز الدافعية حينما يرى الطالب تقدمه بالأرقام والرسوم البيانية، مما يشجعه على المواصلة.. سأتحدث لاحقا في الحلقة القادمة عن رؤيتي لتطبيق هذا الأسلوب لدينا بالمملكة - بإذن الله..