أحمد الجروان
في مترو الرياض، أفضل الجلوس بجانب الباب.
لا لشيء... سوى أني أحب مراقبة الداخلين والخارجين.
الوجوه المألوفة أحيانًا، والغريبة في أغلب الأوقات، والقصص التي تمر أمامي بلا مقدمة ولا خاتمة.
وفي كل رحلة، أجد في الصمت أحاديث، وفي التفاصيل اليومية شيء يستحق التأمل، فأدونها في ملاحظات هاتفي وبعضها يعلق في ذهني حتى يحين وقتها على الورق.
فمعظم ما أكتبه في «حديث المترو» هو مما أسمع، وأشاهد، وأحتفظ به حتى يحين أوانه.
وفي بداياتي مع قصص المترو، تنطلق إحدى الحكايات من ذلك «المربوش» راعي الملف، الذي جلس أمامي ذات يوم، يبدو عليه التوتر، يحمل ملفًا بيده ويتحدث في الهاتف بصوت خافت، وكان يكرر عبارة واحدة: «إن شاء الله خير... بس ادعِ لي».
عند توقف المترو في إحدى المحطات، قام مسرعًا وأخذ من الكرسي بجواره الأوراق الكثيرة المتناثرة، وترك ملفًا شفافًا يحتوي على مجموعة من الأوراق.
وقعت عيني على الملف، ولكن سبقني الباب وأُغلق قبل أن أرفع صوتي بالنداء عليه.
التقطته من المقعد ووضعته بجانبي، كانت الورقة الأولى في الملف تحمل عنوان «المراقب الداخلي»، وعليها ختم واضح كتب عليه «غير قابل للتداول»..
لحظتها، أدركت أن ما تُرك خلفه لم يكن شيئًا عاديًا.
لم يكن بإمكاني اللحاق به، فحملت الملف وقررت أن أُنزله معي إلى محطة وجهتي وأسلّمه لمركز المعلومات.
وبينما القطار يشق طريقه، دفعني الفضول لأقلب بأوراقه.
كانت جداول وأرقام تتوزع على الصفحات، حتى توقفت عند صفحة تحمل ملاحظة بخط عريض: «أرقام المراجعة غير مطابقة للفواتير» وبحركة سريعة، أجريت عملية حسابية بسيطة فاكتشفت أن «المربوش» يحسب بـ»الشقلوب»، وأن خسارة الشركة على يديه تبدو مسألة وقت لا أكثر.
وصلت إلى محطة نزولي، وتوجهت مباشرة إلى مركز المعلومات، وسلّمت الموظف الملف، فأبدى تعاونًا سريعًا، وأخبرني أن بلاغًا وصل من إحدى المحطات يفيد بوجود ملف منسي بعربة أحد القطارات.
ابتسم وهو يشكرني، فأجبته بابتسامة مماثلة: «أعتقد أن نهاية صاحب الملف اليوم»، فضحك وقال: «الله يكون في عونه»..
غادرت وأنا أحمل في ذهني علامات استفهام أكثر مما جئت به.
في تلك اللحظة، أدركت أن كثيرًا من الناس يمرّون بنا يوميًا، نراهم للحظات ثم يختفون خلف أبواب تنغلق.
يبدون بخير، لكنهم يحملون معهم ما يثقلهم...
ملف، مهمة، أو سرّ لا يعرفه سواهم.
وربما كل ما يريدونه من الدنيا هو ألّا يضيع منهم ما يحملونه، أياً كان ذلك الشيء.
المترو وسيلة تحملك من محطة إلى أخرى، وفي عرباته مسرح صامت تمر أمامك فيه قصص لا تُروى.
ومع كل توقف، تُفتح أبواب وتنغلق أخرى، وتتبدل الوجوه، وتبقى الحكايات طي الصمت.
هنا، في مترو الرياض، تتناثر الحكايات كما تتناثر الخطوات على أرضية العربة، بعضها يختفي سريعًا وبعضها يعلق في الذاكرة.
أغادر المحطة وذهني ما زال عالقًا بين جداول الأرقام وملامح ذلك المربوش، وفي حقيبتي الكثير مما يقال... وربما ما لا ينبغي قوله.