د. عبدالحق عزوزي
من بين رجالات الفكر الكبار الذين أعتز بمعرفتهم المرحوم محمد العربي المساري، وهو رجل دولة ورجل فكر بامتياز كان يصالح ولا يخاصم، يجمع ولا يفرق، كان موسوعة فكرية بامتياز، يجيد اللغات وله أسلوب ولسن قل نظيرهما.. كان دائما يتحفني بعلمه وبمراجعه، ولا يبخل علي بمقالاته وأفكاره.. كان يشارك معي في المنتديات الدولية التي كنت أنظمها بفاس وبعصارة فكره في الكتب الجماعية والسنوية التي كنت أتشرف بتحريرها كالدليل المغربي للاستراتيجية والعلاقات الدولية التي كان دائما ما يشجعني على الاستمرار في تأليفها لتغطية النقص الخطير الذي يعاني منه الإنتاج الفكري والأكاديمي والاستراتيجي في هذا الباب..
كنت لما أجلس معه في الرباط، يذهب بي في بعض الأحيان إلى المكتبة الوطنية ونجلس سويا في مقهاها لأنه،كما كان قد أسر إلي، يحب أن يرى الطلبة يدرسون.. ذات مرة استشهدت به في هاته الصحيفة الغراء عن التعدد اللغوي، فأرسل إلي رسالة الكترونية ومما جاء فيها: «مرة أخرى أشكركم على حسن الظن بأخيكم هذا الذي يجل فيكم التطوع لخدمة الفكر والعمل الدؤوب في تنشيط الحوار الخلاق فيما بين مثقفي الضفتين.
النقاش الذي نشب مؤخرا حول التعدد اللغوي يكاد ينحرف إلى مسار إيديولوجي منغلق بل وحزبي إقصائي.. والحال أن الفرنسية كما كانت الإسبانية طيلة مائتي عام بالنسبة لمعاملاتنا الديبلوماسية والتجارية هي لغة انفتاح وتواصل ولا يمكن التفريط فيها الآن وقد أصبحت رأسمالا ثابتا للمغاربة، رغم أن فرضها كان بفعل حادث سلبي هو الاستعمار؛ والتاريخ مليء بالأحداث السلبية التي أدت إلى غير ما يسعى إليه مدبروها.
أذكر أنني طلبت من وزير الخارجية في مقابلة اصطحبت فيها المدير السابق للقناة الثانية وهي بعد من القطاع الخاص أن تساهم الخارجية في دعم مالي للقناة نظرا للوقع الذي لبرامجها في أفريقيا الغربية، إلى درجة ضايقت القناة الفرنسية كنال بلوس؛ أي أن الفرنسية فرصة لتعاون ثلاثي فرنسي أفريقي مغربي فضلا عن كونها لغة انفتاح، ولكن لا يقبل أن تتحول إلى أداة انغلاق كما يريد غلاة التغريب.. معنى أن ما يضايقنا وأصبح يمثل مظهر استفزاز ليس هو وجود الفرنسية، بل طغيانها الذي دفع البعض إلى فرض هيمنة احتكارية. وهكذا فإن الزيادة في الشيء نقصان، كما قال أسلافنا، وعدم التبصر لدى التمكين للفرنسية على حساب العربية هو الذي أصبح يمثل استفزازا لا يطاق.. وقد بينت في كتابي الذي راقكم وسعيتم إلى توسيع انتشاره بطبعه في المشرق أن الاحتكاك مع الطبقة المفكرة الفرنسية أثناء الأزمة جعل المغاربة يكتشفون أن هناك فرنسا أخرى نبيلة ترفض الظلم وتبشر بالعدل والتسامح.. وكنت قد بسطت هذا في عرض أدليت به في أول لقاء نظمتموه عن الحوار بين الحضارات..
إن الموضوع، كما ترى، متشعب، وهو جدير بأن يؤدي إلى نقاش مترفع كما يمكن أيضا أن يسقط في مهاوي منحرفة غريبة على الجو الذي نريده أن يسود ..» وهذا كلام كله صواب ويحمل الكثير من الدلالات، ولعل من أبرزها أن الفرنسية كما كانت الإسبانية طيلة مائتي عام بالنسبة لمعاملاتنا الديبلوماسية والتجارية هي لغة انفتاح وتواصل ولا يمكن قلع هذا المسلم في رمشة عين وإلا ضاعت مصالح البلاد والعباد..
ولما كنا نؤسس للجامعة الأورومتوسطية بفاس التي تجمع 43 دولة، أعطى رحمه الله تحليلا استراتيجيا للموقع المتوسطي والاستراتيجي للمغرب، والذي يجب أن يضطلع به أكثر فأكثر، ومما جاء في إحدى مقالاته التي نشرتها له: «بإمعان النظر في ما حفلت به العشرية الماضية بالمغرب، يبرز للملاحظ أن هناك استراتيجيا تهدف إلى توطيد موقع المغرب في محيطه المتوسطي. ليس فقط من حيث تعهد علاقاته المتعددة الأبعاد مع دول الضفة الشمالية للمتوسط، بل باتخاذ خطوات متئدة وواثقة في تأهيل الواجهة المتوسطية من طنجة إلى السعيدية للانفتاح على الشمال. وهذا يسير في خط واحد مع الاستعداد النظري للقيام بدور في حظيرة الدول المشاطئة للساحل الأطلسي.. ولا يعني هذا أن البعد المتوسطي يجب أن يبرز ليلغي البعد الأطلسي، أو البعد الصحراوي من دور المغرب في محيطه. بل إن المغرب لا يكون في وضعه الطبيعي إلا وقد استوى في رباعيته المجالية، المتوسط والأطلسي وأفريقيا والعالم العربي».
كان رحمه الله يتمتع بعمق التفكير وكان وطنيا كبيرا، كان وزيرا للاتصال ولم يتردد في وضع استقالته الكثير من المرات عندما أحس بأن عملية إصلاح التلفزيون صعبة.. وكان رحمه الله رجل أخلاق ورجل سياسة، وكان براغماتيا غيورا على مصالح بلده ووطنه وكان مدرسة كبيرة في الحياة، كان يحكي لي قصص المرحوم علال الفاسي وأمثاله وكان بتواضعه يسأل عني عندما لا أتفقده مرحلة من الزمن، فرحمة الله عليه وأسكنه فسيح الجنان.