د. إبراهيم بن جلال فضلون
من رام الله إلى دمشق، ومن الرياض إلى باريس، تتحرك الدبلوماسية السعودية بأنامل ريادية، ورؤية استراتيجية لوضع أسس إقليمية عربية جديدة، وكأنها تُعيدُ كتابة قواعد اللُعبة وحركاتها، لكبح جماح الإجرام، وإحراج العدالة الدولية التي اختارت الصمت، بينما لا يزال النزيف الفلسطيني مستمرًا، ولا تزال أطراف التفاوض تُمعن في تجويعهم، وقتلهم، ودفنهم تحت الركام الذي بات وجه غزة الوحيد.. لكن، وكما يحدث دائمًا في السياسة، ما إن نضجت الثمرة، حتى تسابقت أطراف كانت متفرجة لتقطفها، وأمام أعينها آلة القتل الإسرائيلية تُبيد وتطحن أجساد الجوعى، وضمير العالم في صمت بل قانون دولي في عداد الأموات، حتى صار العالم يرى، ويسمع، ويتألم، بل يشعر بالعار من صمته السابق، خاصة وأن وسائل الإعلام التابعة للاحتلال ومسانديه، لم تعد قادرة على تزييف الحقائق أمام تدفق الصور الحيّة والمقاطع التي تنقل المأساة لحظة بلحظة، ولا يدرك الكثيرون من هؤلاء أن هناك من يعمل بصمت في صالح الجميع ومنطقة الشرق الأوسط خاصة، فالمملكة بخطابها الهادئ ومقاربتها التراكمية، تُدير ملفاتها بمنطق الدولة، لا منطق المنابر، وسط معركة صامتة.. طويلة النفس.. وواسعة التأثير.
لقد نقلت السعودية القضية العربية الأولى من ملف إنساني إلى قضية شرعية دولية، بأنامل الدبلوماسية الإنسانية، فلا مزايدة عليها، وقد قلبت أكبر حلفاء تل أبيب لمربع الضد والاعتراف بحل الدولتين ما يجعل الانعطافة الشعبية فيها صفعة قاسية لرواية «الدولة المظلومة»، وحتى النخب الغربية بدأت تراجع مواقفها، أمام جيش عارم من شعوبها، تقوده أجيال شابة على منصات التواصل، في ثورة أعادت تشكيل الوعي الدولي، إذ إن هناك استطلاعا لمركز «بيو للأبحاث» في 24 دولة، يكشف أن 62% من المشاركين لديهم صورة سلبية عن إسرائيل، مقابل 29% بإيجابية.. وهو دليل قاطع لا لبس فيه على تحول المزاج الدولي، كنتيجة لمسار طويل شاركت فيه الرياض على مستويات متعددة، وتلك هي لحظة إعلان الرئيس الفرنسي ماكرون نية بلاده الاعتراف بالدولة الفلسطينية في سبتمبر المقبل، وتصحيح رغم أنه متأخر إلا أنه إيجابي، جعل أكثر من 260 نائباً بريطانياً يطالبون بنفس الموقف، وإعلان أن الاحتلال، مهما أحاط نفسه بالقوة الغاشمة والتبريرات، سيظل غريبًا في منطق التاريخ، وهو ما أكده الأمير فيصل بن فرحان «بأن أي تطبيع مع إسرائيل لن يحدث من دون إقامة دولة فلسطينية».. موقف حازم وقنبلة في قلوب من يتطاولون على عروبتنا تجاه قضية فلسطين.
ولعل هذا التحوّل يُشكّل أرضية سياسية ومعنوية لأي مسار قادم، حيثُ جاء تعداد أجرته وكالة الصحافة الفرنسية مدعوماً بعمليات تثبُّت، أن ما لا يقل عن 142 دولة من الدول الـ193 الأعضاء في الأمم المتحدة باتت تعترف بدولة فلسطين المعلنة ذاتياً عام 1988.. ومن الأمم المتحدة أعلن وراح صوته غوتيريش بأن: «الضمّ الزاحف للضفة الغربية المحتلة غير قانوني ويجب أن يتوقف، والتدمير الشامل لغزة لا يُحتمل ويجب أن يتوقف»، مندداً بـ»الإجراءات الأحادية التي من شأنها أن تقوض حل الدولتين إلى الأبد».. ليُقابلهُ انتقاد كالعادة من أمريكا على لسان المتحدثة باسم الخارجية تامي بروس بمبادرة «غير مثمرة وفي توقيت غير مناسب»، ووصفته بأنه «حيلة دعائية» في خضم «جهود دبلوماسية دقيقة» تبذل من أجل وضع حد للنزاع.. لتصف دولة الاحتلال بعدها المؤتمر بأنه «تعزيز وهم». فإسرائيل تتفوق بالقتل والدمار.. لكنها تُضرب اليوم في عمق سرديتها الصهيونية المزوّرة، أمام معركة كسب التعاطف والتأييد الشعبي العالمي التي نضجت بالفعل السعودي، لتصنع تيارًا ضخمًا لا يمكن للعالم تجاهله..
لكن هذا المشهد لا يقف عند حدود فلسطين وحدها؛ من ينظر إلى منتدى الاستثمار السعودي - السوري الأخير، يُدرك أن المملكة تخوض معركة أخرى: إعادة بناء سوريا، ففي دمشق، جلس السعودي والسوري، ليس للحديث عن الحرب، بل عن الفرص؛ لم يكن المؤتمر ترفًا اقتصاديًا، بل خطوة جريئة في مسار إعادة دمج سوريا في محيطها العربي، وتعزيز استقرارها وتمكين شعبها للنهوض مجددًا، والدفع بهم نحو المستقبل، على قاعدة المصالح المتبادلة، لا الأوهام الكبرى ولا الأجندات العابرة للحدود.
وختاماً: إن الرياض، تُعلن بمواقفها الثابتة أن المنطقة لم تعد ملعبًا مفتوحًا للاختراقات، وقد حان الوقت لنهضة شرق أوسطية عبر بناء عربي موحد، ولن تسمح لأي جهة التفرد بمستقبل المنطقة، وقد رأينا مواقفها مع سوريا ورفع العقوبات عنها ووحدها، و ما زالت تفتح أبوابها لعودة دمشق إلى الحياة، لا تُناور ولا تُقامر، بل تعزز وتسابق الزمان بحروبه وأحداثه المتلاطمة بدبلوماسية قيادية وإرادة عربية مشهود لها.