إعداد - عبدالله عبدالرحمن الخفاجي:
بين صمت اللوحات وضجيج الداخل، يحدث شيء لا يُرى.. تتبدّل فينا موازين الحسّ والمعنى.
في صالات هادئة، يقف زائر أمام لوحة لا يعرف اسمها ولا سيرة صاحبها، يطيل النظر وكأن الزمن يتباطأ ليتيح له أن يسمع ما لا يُقال. ليست الألوان هنا مجرد ضربات فرشاة على قماش؛ بل إنها إشارات دقيقة إلى ذاكرة بعيدة، إلى خوف قديم أو رجاء ما زال حيَّاً. يخرج بعد دقائق وهو ذات الشخص من الخارج، لكنه ليس ذاته في الداخل. ما الذي فعله الفن؟ وأي قوة خفيَّة تحرّكها اللوحة حين تضعنا وجهًا لوجه مع أنفسنا؟
الفن التشكيلي لا يطلب منا إذنًا ليمرَّ، يدخل من بوابات مفتوحة: لون يوقظ حاسة خامدة، خط يلمس منطقة لا تصلها الكلمات، تكوين يصف ترتيب الفوضى في أعماقنا. أمام عمل فنّي جيّد، ينشط العقل كما لو كان يحلّ لغزًا باردًا، بينما يشتغل القلب بحرارة يشعر فيها أنه وُجد في المكان الصحيح. وبين العقل والعاطفة يولد أثر مركب: فهم أعمق للعالم، وهدوء ملحوظ، ورغبة مفاجئة في الإصغاء لما أهملناه طويلاً.
وراء كل لوحة يد ترتجف أحيانًا وتثبت أحيانًا، وعين تتعلَّم كيف ترى قبل أن ترسم، وفنان يغامر بأن يضع روحه على سطح مكشوف. اللوحة ليست مجرد انعكاس لذوقه، بل وثيقة لحالة شعورية أو لحياة عاشها أو لمواقف مرت به. قد تصبح صرخة ألم، أو احتفالاً بجمال منسي، أو محاولة لفهم ما لا يُفهم. ولأن المشاعر إنسانية بطبعها، تعبر هذه الأعمال الحدود واللغات، وتجمع المختلفين تحت ضوء واحد.
من يشاهد لوحة «جرنيكا» لبيكاسو قد لا يعرف تفاصيل الحرب الإسبانية، لكنه يشعر بثقل المأساة. ومن يتأمل النقوش الصخرية في الجزيرة العربية يطل على أرواح من عاشوا قبل آلاف السنين، يقرأ في خطوطها وأشكالها قصص الصيد، وطقوس الاحتفال، ومشاهد الحياة اليومية. الفن يحفظ الذاكرة، لكنه لا يتركها جامدة؛ فهو يربط الماضي بالحاضر، ويعيد تقديم الحكاية بلغة اليوم ليشعر بها الجيل الجديد وكأنها تخصه.
لكن الفن ليس حكرًا على صالات العرض والمتاحف. يمكن أن يعيش معنا في تفاصيل بسيطة: لوحة صغيرة على المكتب، صورة فوتوغرافية تذكِّرنا بمكان نحبه، أو ألوان غرفة تمنحنا الراحة. الأمر لا يحتاج إلى معرفة أكاديمية أو ميزانية ضخمة، بل إلى اختيار ما يلمس إحساسنا. في اليابان، هناك مفهوم «إيكيغاي» الذي يعني الأشياء الصغيرة التي تمنحنا سببًا للابتسامة كل يوم؛ قد تكون كوب شاي مزخرفاً، أو وسادة بنقوش هادئة، أو لوحة بألوان مبهجة تغيِّر مزاجك بمجرد النظر إليها. حتى أماكن العمل يمكن أن تتحول إلى مساحات أكثر إلهامًا إذا احتوت على لمسات فنية، فالفن ليس ترفًا، بل وسيلة لتحفيز الروح والإنتاجية معًا.
حين نغادر معرضًا فنيًا، قد لا نحمل في أيدينا شيئًا، لكننا نحمل في داخلنا شعورًا جديدًا، وكأننا عدنا إلى الحياة بعيون أكثر صفاءً. قد تغيِّرنا لوحة واحدة، لا لأنها أجمل ما رأيناه، بل لأنها لمست شيئًا لم نكن نعرف أنه موجود. الفن، في جوهره، ليس رفاهية ولا هواية للنخبة، بل حاجة إنسانية عميقة، مثل الحاجة إلى الحلم أو الحنين. إنه وسيلتنا لفهم العالم، وأحيانًا وسيلتنا لمواجهته. ومن اللوحة إلى الروح، تتضح الحقيقة البسيطة: ما يتغيّر حقًا ليس العمل الفني.. بل نحن.
متى كانت آخر مرة وقفت فيها أمام لوحة أو منحوتة وتركتها تأخذك إلى مكان آخر؟
ما الألوان التي تسكن ذاكرتك دون أن تعرف السبب؟
وأي صورة أو عمل فني في حياتك اليوم يمكن أن يغيِّر مزاجك أو طريقة نظرك للعالم؟
ربما نجد الإجابة في معرض قريب.. أو على جدران بيوتنا.. أو في ذاكرة قديمة تنتظر أن تستيقظ.
** **
تويتر: AL_KHAFAJII