د. محمد بن صالح الحربي
أصبحت الطائرات بلا طيار (المسيّرات أو الدرونز - UAVs/UAS) ركيزة أساسية في الحروب الحديثة، أحدثت تحولاً جذرياً في التكتيكات والاستراتيجيات العسكرية. لم تعد مجرد أدوات استطلاع، بل تحولت إلى أسلحة فتاكة ومنصات متعددة المهام، مع تأثيرات أمنية وعسكرية واقتصادية عميقة.
مراحل تطور الطائرات بلا طيار العسكرية:
1- كانت البدايات في (القرن 20): استخدام محدود للاستطلاع والاستهداف في حروب مثل فيتنام.
2- طفرة التسعينيات وأوائل الألفية: تطور تقنيات التحكم عن بعد، ونظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، وأجهزة الاستشعار. ظهور مسيّرات مثل «بريداتور» الأمريكية التي أدخلت مهمات الضربات الجوية.
3- العقدان الماضيان (2000- 2024):
التنوع: ظهور مسيّرات متنوعة الأحجام والمهام: من المسيّرات الصغيرة المحمولة باليد إلى المسيّرات الكبيرة ذات التحمل الطويل (MALE/HALE) مثل «ريبر» و»غلوبال هوك».
الذكاء الاصطناعي والتشغيل الذاتي: زيادة قدرات التشغيل شبه المستقل، وتحديد الأهداف، والتجميع السربّي.
التخفي والتقنيات المتطورة: تطوير مسيّرات شبحية وتقنيات تجنب الرادار.
المسيرات الانتحارية/ المهاجمة: انتشار واسع لأنظمة رخيصة وفعّالة مثل «شاهد» الإيرانية و»لانكيت» التركية المستخدمة بكثافة في أوكرانيا
مكافحة المسيّرات: تطور أنظمة الدفاع الجوي المضادة للطائرات المسيّرة (الليزر، الميكروويف، المدافع السريعة، أنظمة التشويش الإلكتروني).
أثر الطائرات بلا طيار في الحروب الحديثة:
1- إعادة تعريف ساحة المعركة:
تقليص المخاطر البشرية: تقليل خسائر الأرواح للقوات الصديقة في العمليات الخطرة.
الوصول الدائم (Persistent Surveillance): توفير مراقبة مستمرة ودقيقة للأهداف لساعات أو أيام.
ضربات دقيقة وسريعة: القدرة على تنفيذ عمليات استهداف دقيق خارج الحدود التقليدية (مثل عمليات الصراع ضد الإرهاب).
الحرب غير المتماثلة (Asymmetric Warfare): تمكين الدول الصغيرة أو الجماعات غير الحكومية من امتلاك قدرات جوية هجومية واستطلاعية بأسعار معقولة، كما في حربي أوكرانيا وغزة.
2- تغيير التكتيكات:
دمج المعلومات والاستهداف: ربط المسيّرات بأنظمة القيادة والسيطرة لتوفير معلومات استخبارية في الوقت الفعلي وتوجيه الضربات.
حرب السربّات (Swarm Warfare): تنسيق أسراب من المسيّرات للهجوم أو الدفاع أو التشويش بشكل متزامن (ما زال قيد التطوير المتقدم).
الحرب الإلكترونية: استخدام المسيّرات في التشويش، التنصت، وحتى كأسلحة إلكترونية.
3- تحديات جديدة:
التهديد للقوات التقليدية: صعوبة الدفاع ضد الهجمات المسيّرة المكثفة والرخيصة.
خطر التصعيد: سهولة تنفيذ ضربات عبر الحدود قد تؤدي لتصعيد غير مقصود.
المساءلة القانونية والأخلاقية: غموض في مسؤولية القرارات، خاصة مع زيادة التشغيل الذاتي، ومخاطر الضربات الخاطئة أو استهداف المدنيين.
الانتشار والتهديد الإرهابي: إمكانية وصول الجماعات المتطرفة لتقنية المسيّرات المهاجمة.
أهم الطائرات بلا طيار عالمياً:
1- الولايات المتحدة:
MQ-9 ريبر (Reaper): طائرة مسلحة هجومية متعددة المهام، طويلة التحمل، العمود الفقري للضربات خارج ساحات القتال التقليدية.
RQ-4 غلوبال هوك (Global Hawk): طائرة استطلاع إستراتيجية عالية الارتفاع وطويلة التحمل.
سكان إيغل (ScanEagle): صغيرة، للاستطلاع التكتيكي البحري والبرّي.
2- إسرائيل:
هرميس 450/900 (Hermes 450/900): استطلاع ومراقبة متوسطة/طويلة التحمل، مستخدمة على نطاق واسع.
هاروب (Harop): مسيّرة انتحارية/ مهاجمة («طائرة كاسحة») تستهدف أنظمة الدفاع الجوي بالرادار.
إيتان (Eitan - Heron TP): مسيّرة استطلاع وضرب كبيرة جداً وطويلة التحمل.
3- الصين:
وينغ لونغ (Wing Loong - I/II): منافسة للـ«ريبر» الأمريكية، مستخدمة في عدة دول.
تشاي هونغ (CH-4/CH-5): مسيّرات هجومية واستطلاعية متوسطة التحمل، تصدير واسع.
جونييشن (Gongji-11): مسيّرة قتالية شبحية بدون ذيل (Flying Wing) قيد التطوير.
4- تركيا:
بيرقدار تي بي 2 (Bayraktar TB2): مسيّرة متوسطة التحمل مسلحة، حققت نجاحاً كبيراً واستعراضياً في عدة صراعات (ليبيا، أذربيجان، أوكرانيا) وأصبحت رمزاً للقدرة المحلية.
أكينجي (Aknc): مسيّرة ثقيلة وطويلة التحمل، تحمل حمولات كبيرة وأسلحة متطورة.
5- إيران:
شاهد-136 (Shahed-136): مسيّرة انتحارية/ مهاجمة («طائرة كاسحة») تشكلية، رخيصة، تُطلق في أسراب، مستخدمة بكثافة من قبل روسيا في أوكرانيا.
مهاجر (Mohajer): مسيّرات استطلاع وهجوم متنوعة.
اقتصاديات الطائرات بلا طيار:
1- التكلفة المنخفضة نسبياً:
مقارنة بالطائرات المأهولة: تكلفة شراء وتشغيل وصيانة المسيّرات أقل بكثير من الطائرات المقاتلة أو المروحيات.
قابلية التضحية (Attritable): تسمح التكلفة المنخفضة للمسيرات الصغيرة والمتوسطة باستخدامها في مهام خطرة قد تؤدي إلى فقدانها (مقبولة الخسارة).
2- تأثير على ميزانيات الدفاع:
إتاحة القدرات الجوية: تمكين دول ذات ميزانيات دفاع محدودة من امتلاك قدرات جوية هجومية واستطلاعية فعالة.
إعادة توزيع الموارد: تحويل الاستثمارات من أنظمة باهظة الثمن (طائرات مقاتلة) إلى أساطيل من المسيّرات.
3- السوق التجارية كقوة دافعة:
الابتكار والتقنيات: الازدهار الهائل للسوق التجارية (التصوير، الزراعة، التوصيل) يدفع الابتكار ويخفض تكاليف المكونات (الكاميرات، البطاريات، أنظمة التحكم) التي تستفيد منها الصناعة العسكرية.
الازدواجية (Dual-Use): العديد من التقنيات الأساسية مشتركة بين التطبيقات التجارية والعسكرية.
4- نمو سوق الدفاع:
سوق ضخم ومتنامي: تريليونات الدولارات متوقعة في العقود القادمة.
ظهور دول جديدة مصنّعة مثل تركيا وإيران كمصدرين مهمين، إلى جانب القوى التقليدية (الولايات المتحدة، إسرائيل، الصين).
الاعتماد المحلي: سعي الدول لتطوير صناعات محلية لتقليل الاعتماد على الاستيراد وتوفير فرص عمل.
يُتوقع أن يصل إلى «150–200 مليار دولار» (وفقًا لتقارير «غولدمان ساكس» و»مورجان ستانلي»).
بمعدل نمو سنوي (CAGR) (% 20–15) خلال العقد الحالي.
يتضاعف سوق الطائرات بدون طيار 5 أضعاف خلال عقد واحد (2020– 2030)، مدفوعًا بالتحولات الجيوسياسية والتقنية. بينما يبقى القطاع العسكري المحرك الرئيسي، فإن التطبيقات المدنية ستشكل قفزة نوعية في الاقتصاد العالمي، خاصة في الزراعة والخدمات اللوجستية.
التحديات المستقبلية:
أحدثت الطائرات بلا طيار ثورة لا رجعة فيها في ميدان المعركة الحديث، جاعلةً القوة الجوية في متناول أطراف أكثر، وبتكاليف أقل، وبقدرات متزايدة. ومع ذلك، فإن هذا الانتشار السريع يطرح تحديات جسيمة:
سباق التسلح وعدم الاستقرار: تسهيل حصول دول وجماعات على أسلحة فتاكة.
الحرب الإلكترونية والأمن السيبراني: ضعف أنظمة التحكم والاتصالات أمام الهجمات الإلكترونية.
التشغيل الذاتي والذكاء الاصطناعي: المخاوف الأخلاقية والقانونية حول تفويض قرارات القتل للآلات.
مكافحة المسيّرات: الحاجة المستمرة لتطوير أنظمة دفاع فعالة واقتصادية ضد تهديدات المسيّرات المتنوعة.
ستظل الطائرات بلا طيار محوراً للاستراتيجيات العسكرية والاستثمارات الدفاعية في المستقبل المنظور. قدرتها على خفض التكاليف، وتقليل المخاطر على الأرواح، وتوفير قدرات غير مسبوقة في الاستطلاع والضرب، تجعلها أداة لا غنى عنها، لكن إدارتها وتنظيم استخدامها سيكونان حاسمين لضمان الاستقرار العالمي واحترام القانون الدولي الإنساني.