عبدالمحسن بن علي المطلق
الألم على ضربين مادي ومعنوي، وكل له ثقله، ولعل في المعنوي أوجاعا أحيانا هي أكثر إيلاما، قال (كُـثيـّـر):
ما كنت أدري قبل (عزّة) ما البكا
ولا (موجعات) القلب حتى تولّت
لأن «المعرّي» عرّى عن ذاك الخـطب أن..
لا لقاءً حتى (يوم المعاد)!
هكذا يصف دون أن يشفّ عن ظاهر المراد، ويزيد الألم كل ما كان حلوله لمن ذِكره جميل، أو نال مساحة مما حظي به من خصال ..
والحذلقة بهذا الجانب تطول، كما والتعليل يسحب سوانح تُذهب بالمرام لنُـجعة مغايرة لما أروم هنا.. ورغم أن الموت بلا أسباب هو السببُ، إلا وتجد من يستقصي عن فُجائية الرحيل!، وعلى طارئ الفُجائية.. يبقى الأجل وحده الذي لا يُـؤجّـل {..فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً}، لأن الوقت المحدد أزف، والأمد المعدود قضى، كما قُـضي الأمر الذي استفتيا حوله صاحبي يوسف عليه السلام..
برحيل الصفيّ النقيّ (عبدالمحسن بن عبدالله الهدباء) تنطوي نفس رويّة بالحب ملأى بالابتسام، كسبت كل من عرفها من الأنام.
نعم، لا يوجد إجماع على أحدٍ بعد النبي - صلى الله عليه وسلّم-، لكن هناك من حاول، ليس لنيل تلك المرتبة التي من الاستحالة مبلغها، إنما طاول بهمّته لما يُدانيها، يدفعه حديث (سددوا وقاربوا)، وفي هذا النص عذرٌ لمن جاهد ذاته ولم يصل..
ففي شرف المحاولة (المقاربة) لا متربة التقصير أن عسى تكن له الشفيع، فيكن ممن أُتبع ثناءً (..كفى المرء نُبلا أن تُعدّ معايبه) أن من مراميها أُشبع!
وبالمناسبة، فقد قيل عن تعداد عيوب الإنسان تربو على الثمانين، ثم ذُكر عن أهم ما يلزمه توقّيها اثنان هُما (الاستبراء للدين ثم من أعراض الناس..)، المهم/
كما ولأنه جرأ دلالة تـأوّها يملي أن لا لقاء بعده.. إلا أن في الموت من الدروس، يتصدّرها- كما تقدّم- أن لا لقاء إلا في «المعاد..»، فهذه بحدّ ذاتها جليّة، لأنّها تنبئ أن صاحبك لم يعد بيده، ولا بِـمَـلك خياره إكمال الطريق !، هنا لا تجدك مبالغا إذا اصـطرخت:
عُدْ للذين -غداةَ فاجأَكَ الردى-
حملوكَ في نعشٍ من الأعصابِ
وحَثَوْا عليكَ صوابَهُمْ، وتفَرَّقوا
في قارعات الحزن.. دون صوابِ!
من أبيات نافذات وعما بداخلنا نافثـات، جدّلهنّ «سامي الصحيح»، وقوله (الصواب) المراد كناية عن العقل.. وهل للعقل حضور تام في كنـه هذه الأحوال، بالغالب لا..
إلا ممن أكرم بمنقبة (رباطة الجـأش) مستحضر بين يديها توجيها ربانيا على لسان نبـيّه (الصبر عند الصدمة الأولى) صدق المربّي - صلى الله عليه وسلّم-، هذا ما رواه مسلم.. رحمه الله..
وأبعاد الصدمة يتبعها (قرع السِنَّ) على رأي ابن زيدون، فتـلـمم تحت مطرقة الندم (..لمن يفرّط) بنوعية من ذاك الرهط الذي أطّت ذاتها السمو بها روحا وخُلقا و..، وإن قرّب لكشط خفاياه «علي الجارم» أن كم/شغفنا بالبدر بعد احتجابه
هذا وهو - البدر- إلا وعائدٌ.. بعد زوال الأسباب كالسحاب، أو في مطامع مطالعه بالليالي المقبلات ..
والشطر مقتطع من أبيات..
يُعْرَفُ الْوَرْدُ حِينَمَا يَنْقَضِي الصَّيـ
ـفُ، وَيُبْكَى النُّبُوغُ بَعْدَ ذَهَابِهْ
كَمْ نَدَبْنَا الشَّبَابَ حِينَ تَوَلى
وَشُغِفْنَا بِالْبَدْرِ بَعْدَ احْتِجَابِهْ!
وشاهدي (بعد ذهابه)، أن هكذا هُم أولئك النوادر.. الصفوة.. النقـوة، وقد نظمها كالعاتب على (صفيّ) لم يجد في محياه جُملةً مما يستحق يوم كان بين ظهراني القوم، فما أن اختطفته يد المنون إلا وعُرف في (فـ... ـراغ) ما تركه!، بالذات وأنه غاب، ولم يعد لشمسه من إياب
اليوم يغيب الحبيب والقلب القريب، والصديق الرقيق وبالكل رفيق (عبدالمحسن)، وكم من حسن منه اهتبلنا..
جـمّ من ذكريات سطرتها لقاءات كنّـا نسترقها كصحبة بهذه الفترة، جمالها أنها (بلا موعد مضروب) تـخنى.. علينا فنلتقي ونأخذ القهوة ويملئ أنفاثها - لا أنفاسها- ظريف تعليقات تصدر عن تلقائية لا تشغيب خلف إكمها، لأن الغرض هنيّـات أُنس تبديها نفوس تنشد الانشراح..
يذهب بلا مقدمات، ومن قضى نحبه -مات..- لا تسأله لم لم تُخبر؟، ولو كان داعي السؤال أن عسانا نشبع ذواتنا وهي تُطرق مستجلبةً آخر لقاء وكيف هو كنهه؟
وعلامَ تركنا به ذاك الصاحب الذي اليوم غائب فأبقى مقعده كمكانه.. شاغراً، أكان ذاك الاجتماع الأخير أبدى به لنا عن رضى فنحمد (ختم) المسعى به، أم نعكف على اطلال الندم، وأننا لم نفز بذاك الوداع على ما نريد أن تمضي به سلسلة تفاصيله؟
نطوي ذاك العزيز من العمر مع مضيّ مثل ذاك العزيز، لأن «العِشرة غالية»، ولا يُثمّـنها إلا الأصيل، لإنها ليست مجرّد وقتٍ نقضيه مع أحدهم، ولا أيامًا مثل الزبرجد شاخصات في مسار دربنا الذي تولّى فلا عوالق من بعد بُعده سوى أُلفة شامخة في صولجان الحنين، معلّقةً في أروقة الذكريات..!، لأنها آتيةً جرأ موقف، وفاء، حنيّـة، ستر، إحسان ..الخ، فتُعصب بجبين فضيلة قلما تُضاهى هي التغافل (أو حتى التغاضي)عن الزلات
فمن عاش معك تفاصيل تلكم، فلم يتسـنّه، أو تغيّره المسافات، وما بـدّله التقلبات.. يستحق منك تمام التوقير والاحترام، ولو فرّقت بينكما الأيام..
يغادر (أبو عبدالله) بلا موعد سفر ولا حجز ولا استئذان، هكذا ليخبر خبر (وقع) رحيله كل كيّـسٍ أن هذا هو السلم الذي يلزمك حسبان توقّعه بلا حساب ولا ترقّبٍ.. حتى مضى (عبدالمحسن) ذاك الحَـسن الروية، نقيّ الطوية، أبيض القلب.. تلقائيّ التعامل، درجة أن كم يهتمّ لمن يظن أنه منه غـمّ بأدنى شائبه، من نوعية قليلة تصفّي ما عليها أوّل بأوّل، لأن قلبه من ذو أعالي الرتب (التي لا تحمل الحقد) ولا يُعرف عنها الغضبُ
يذهب (ملبيا) نداء مولاه قبل أن يلمّح لنا عن الموعد.. لنأتي على وجوهنا زرافات لوداعه ووحدانا، فهو من فئـة لا تستكثر تشيّعها ولو نأى مزارها، أو بَعد دارها
راح وقد أباح عن مكنونا إزاءه.. لكن بلا تمريرة لأي إشارة تتقصّى دلالتها، وإن استغرقنا أمدا لفكّ شفرتها عن الصاحب الذي ما كان أوفى منه في زمن ربما تشير بأصابعك على نوعيته، فتحتبس المقارنات وأنت تنبّش عن نظير.. أو موازيا فقلما تجد!
وبالفعل ما قيل (إن الكرام قليل)
ولا ملامة أن تمضي يا الغالي دون اخبار، لعلك أشفقت من محبيك نزول الخطب عليهم فقد يحاكون رقّتك من خلال (شخصيتك) التي عهدوا مُنذ وقّعت بصماتها في خلدهم، ولم تتغيّر.. وكم بادلوك المثل بالمثل، يا صفيّـنا الخليص
رحمك الله، بقدر ما حمل قلبك من حب ولطف ورقّة.. وعذوبة
رحمك الله، فقد كنت وكنت.. فلا نامت عين عاذل ودّ صادر عما لك، مكنوزة في كننا، وبوصلته تلقائك، وُجهته يممت شطرك.