عايض بن خالد المطيري
لا يرحل الكبار كما يرحل الآخرون، فهم يغادرون تاركين إرثًا من المواقف والمبادئ، وعطر الأيام التي صنعوها بأيديهم، وأثرًا يسكن القلوب قبل أن يُسجَّل في الأوراق. هكذا ودّع الوطن الفريق ركن سلطان بن عادي المطيري؛ نائب رئيس هيئة الأركان العامة، القائد الذي جمع بين صرامة الميدان وخشوع المحراب، وعاش عمره في خدمة الوطن بشرف القيادة وهيبة المسؤولية، حتى جاء يومه الأخير كما أراده؛ هادئًا، كريمًا، مهيبًا.
منذ تخرّجه في كلية الملك عبد العزيز الحربية، وحتى وصوله إلى منصب نائب رئيس هيئة الأركان العامة، ظل مثالًا للعسكري المحترف الذي يوازن بين العقل والحزم. تقلّد 14 منصبًا عسكريًا، من بينها قيادة المنطقة الشرقية، وقيادة القوات البرية، وصولًا إلى منصبه الرفيع كنائب لرئيس هيئة الأركان العامة.
لقد عرفه الميدان قبل أن تعرفه المكاتب، ففي العام 1991، كان على رأس القوات البرية المشتركة في حرب تحرير الكويت، ليسطر اسمه في صفحات التاريخ الخالدة. وفي معركة الخفجي، وصفه الأمير خالد بن سلطان في كتابه مقاتل من الصحراء بأنه «قائد من الطراز الأول»؛ إذ كان القائد الوحيد الذي ترجل من مركبته العسكرية، وتقدّم سرايا الاستطلاع سيرًا على الأقدام نحو مواقع العدو، مستطلعًا المواقع بعينه قبل إصدار أي أمر. لم يعتمد على تقارير متضاربة أو إشاعات الحرب، بل بحث عن اليقين بنفسه، وهي سمة لا يتقنها إلا القادة الميدانيون الشجعان.
وأثناء استكشافه مواقع العدو، تلقى رسالة لاسلكية من مركز القيادة المتقدم تفيد بأن الطائرات الأمريكية تقصف القوات العراقية في المدينة، فأجاب بوضوح: «أنا الآن في الخفجي، ولا يوجد أي نشاط جوي على الإطلاق». ويروي أحد ضباط الدفاع المدني، الذي كان أسيرًا لدى القوات العراقية، أنه رأى اللواء سلطان وأراد أن يصرخ محذرًا من خطر الاستهداف، لكن العراقيين هددوه بالقتل إن فعل. ثم أطلقوا النار على مركبته، غير أن اللواء سلطان نجا بمراوغته ودهائه، مضيفًا إلى رصيده الميداني شهادة جديدة على شجاعته ورباطة جأشه.
ورغم جسامة المسؤوليات التي تحملها، بقي قريبًا من الناس. كان مسجد الحي الذي يسكنه ملتقى بينه وبين أصحاب الحاجات، فلم تمنعه رتبة فريق أو البروتوكولات من الإصغاء لهم وقضاء حوائجهم خارج أوقات الدوام، سواء في طريقه إلى المسجد أو عند عودته منه.
كان -رحمه الله- قائدًا فاضلًا وقياديًا محنكًا، واثقًا بنفسه، يدرك أن قيمة الرجل لا تقاس بالمنصب وحده. وعندما أحيل إلى التقاعد عام 2007، رُتّبت له دعوات للتكريم، لكنه اعتذر قائلًا: «أنا ما زلت رجل دولة، والتكريم الذي حصلت عليه من قيادتي يكفيني». لم يكن رفضه كبراً، بل تواضعًا وحرصًا على ألا يكلّف على أحد، مؤمنًا بأن خدمة الوطن لا تنتهي بخلع البدلة العسكرية.
بعد التقاعد، اختار الابتعاد عن الأضواء، ورفض أن يكون جزءًا من مشهد الاستعراض الاجتماعي الذي يستهوي البعض. عاش سنواته الأخيرة في عبادة وصلة رحم، محتفظًا بهيبة القائد ووقار المؤمن، حتى رحل تاركًا إرثًا من المروءة والرحمة والقيم.
لم يكن إرثه مجرد انتصارات ميدانية أو أوامر عسكرية، بل ابتسامة يوزعها على من حوله، ويدًا لا تتردد في مساعدة محتاج وإنصاف مظلوم.
كان يرى أن القيادة الحقيقية تُبنى بالقدوة والرحمة، وأن القوة درع يحمي الضعفاء قبل أن تكون سيفًا يصد الأعداء. وعند ذكر اسمه في المجالس، يسبق وصفه «الرجل الطيب» و»صاحب المروءة» أي لقب عسكري.
رحم الله أبا حمد، الفريق سلطان بن عادي المطيري، وجعل جنات الفردوس مأواه، وأبقى سيرته نبراسًا للأجيال. فالرجال العظماء لا ترحل سيرتهم مع أجسادهم، بل تبقى تحرس أسماءهم كما حرسوا أوطانهم.