خالد محمد الدوس
رحيل الأحبة وفراقهم حقاً من أقسى «المشاعر» التي تخيم على القلب وتترك في الصدر فراغاً لا يملأ.. وذكرى لا تنسى.. ولا عجب أن يصفها الشعراء بأنها» الموت الأصغر»..!!
ولكن في مثل هذا الألم العميق نتّذكر دائماً أن الفراق سنة الله -عز وجل- في خلقه.. كما تشرق الشمس وتغرب، وكما تتغير الفصول في هذا الكون الفسيح.. فاللقاء والفراق البشري من طبيعة الوجود.. تقبل هذه الحقيقة، وإن كانت مرّة يخفف من صدمة الفقد، ومرارة الرحيل!.
في هذا الألم العميق نتذّكر دائماً أن «الرحيل الجسدي» لا يعني انتهاء المشاعر..! الحب الحقيقي والصدق والذكريات الجميلة وقيم الوفاء.. تظل كنزاً خالداً في القلب والوجدان لأن وجودهم في داخلنا هو شكل من أشكال البقاء.. لمن رحلوا عن عالمنا وقد تركوا سيرتهم العطرة حاضرة بقوة في الذاكرة الوجدانية حتى لو هرولت الأيام ومضت الشهور وتعاقبت السنين.
ثمان سنوات تمر على رحيل أمي التي لم تلدني الغالية «سارة عبدالرحمن الغريبي» -رحمها الله- التي كانت صمام أمان -بعد توفيق الله ورعايته- عندما حل بـّي (اليُتم) مبكراً في مهدي برحيل أمي الغالية «نورة عبدالرحمن الموينع» -رحمها الله- وأنا في شهري السادس..!! والقمر الذي أضاء ظلمة يتمي حين تركُت رضيعاً بعد وفاة أمي الغالية نورة.. فقدتُ حليب الأم ولكن أمي سارة استبدلته بحنان يغذي الروح قبل الجسد..! فحملتني وهناً على وهـّن.. ولم تلدني ولكنها تولت رعايتي والقيام على تربيتي حتى زرعت بذور القيم الاجتماعية الأصيلة والشيم التربوية الفضيلة، وأثمرت -بعد توفيق الله تعالى- في أن أشق طريق الحياة بكل كفاح وعصامية إلى أن شارفت على القرب من مناقشة رسالة الدكتوراه في علم الاجتماع الأسري - بمشيئة الله تعالى - في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
ما أصعب الروح عندما تحمل جرحاً عميقاً (مترسباً) عبر سنوات عديدة.. جرح مزدوج بفقد الأم البيولوجية (نورة الموينع) التي غادرت هذه الدنيا الفانية في عـّز شبابها (34 سنة)..! ورقدت تحت التراب في مقبرة العود.. وتركت كاتب السطور في شهره السادس..! والأم التي احتضنتني (سارة الغريبي) وأصبّحت بالتالي (أمّاً) بالمعنى الأعمق.. لم تكن -رحمها الله- بديلاً عن أمي نورة بل كانت الصدر الحنون واليد الكريمة التي التقطت قلبي اليتيم من ظلام الفقد.. وحولتُه إلى بستان من الحنان والعواطف والأمان.. صحيح أن غياب (الحضن البيولوجي) برحيل أمي نورة ألم وجرح غائر..! ولكن القلب الكبير أمي سارة صنعت (حضناً آمناً) من أسرار إيمانية عميقة لا يعرفها إلا من وفق للأعمال الصالحة. قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) (30) سورة الكهف.
علمتني أن الأمومة قرار بالحُب.. لا مجرد دم ٍ يجري.. في حضنها تعلمت أول درس في الحياة أن الرحيل لا يمحو وجوداً.. فقد أضاءت ظلام غياب (أمي نورة) بشموع صبرها وتضحياتها وسهرها وإيثارها النابع من عمق إيمانها بقيمة العمل الإنساني الإحساني..
لم تنجبني (بيولوجياً) لكنها أنجبت كل معاني الأمومة: الصبر في يأسٍ.. والأمل في جرحٍ.. والقوة في انكسار.. كانت دليلاً أن الأمهات يخلقن مرتين مرة بالولادة.. ومرة بالاختيار. وربما كان رحيل أمي نورة المبكر من عمرها اختباراً لقلب أمي سارة فقبلت حمل الأمانة؛ لأن في أعماقها - رحمها الله - بحراً من الحنان وفي إيمانها صخرة تتحطم عليها أمواج اليأس والقنوط.. بعد أن حولت - بعد توفيق الله ورحمته - (مأساة الفقد) إلى ميثاق حُب، وهذه من أفضل النعم التي لا ينالها إلا ذو حظّ عظيم.
اللهم يا أكرم الأكرمين.. ويا أرحم الراحمين. كما ربطت بين الغياب المبكر لأمي البيولوجية (نورة).. والحضور الإنساني لأمي التي احتضنتني في مهدي (سارة).. اربط روحيهما في جنات النعيم بحبل من نور لا ينقطع، وارفع درجتيهما في عليين، واجعل قبريهما روضة من رياض الجنة.
وقفة وجدانية:
* رحيل الأحبة هو أحد أقسى اختبارات القلب.