د.عبدالله بن موسى الطاير
التقى الرئيسان الأمريكي والروسي في ولاية ألاسكا، وتوقف بوتين لوضع إكليل زهور أمام النصب التذكاري لما يسمى «أبطال طريق ألاسيبا الجوي» الذي يرمز للتعاون بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية، كما أن الكلمة التي ألقاها أمام الصحافة بعد الاجتماع المطول مع نظيره الأمريكي كانت مشحونة بالرسائل التي يحاول بها تغيير رواية الإعلام الأمريكي عنه كشخص وعن بلاده.
لطالما كانت العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا نسيجًا معقدًا من التعاون والصراع بسبب التزاحم على المصالح، والتباينات الأيديولوجية، والطموحات الجيوسياسية منذ أوائل القرن التاسع عشر وحتى القمة التي عقدت الجمعة بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين شهدت هذه العلاقة لحظات من الدفء والكثير من العداء، وترك كل منهما بصمةً دائمةً على شؤون الآخر، والشؤون العالمية.
اتسمت العلاقات الأمريكية - الروسية بصداقة «لدودة»؛ حافظت الدولتان، اللتان تفصل بينهما فجوات جغرافية ضيقة، وثقافية شاسعة، على روابط سياسية واقعية جنبت العالم حتى الآن حربا عالمية نووية مدمرة. شهدت خمسينيات وستينيات القرن التاسع عشر ذروة علاقات التعاون بينهما، حيث دعمت الولايات المتحدة روسيا ضمنيا خلال حرب القرم (1853 -1856م) سواء بحيادها الاستراتيجي أو الدعم اللوجستي غير المباشر. في المقابل دعمت روسيا الاتحاد، الذي يمثل الولايات الشمالية، خلال الحرب الأهلية الأمريكية (1861- 1865م). ومن نافلة القول إن تلك النيات الحسنة تُوجت بموافقة روسيا على بيع ولاية ألاسكا لأمريكا عام 1867م، وهي صفقة سُخر منها أمريكيا، في البداية، باعتبارها «حماقة سيوارد»، نسبة إلى وزير الخارجية الأمريكي إذ ذاك وليام سيوارد الذي قاد التفاوض مع الجانب الروسي، لكنها لاحقا اعتبرت استحواذا استراتيجيا، عند اكتشاف موارد ألاسكا الطبيعية الكامنة تحت الجليد. أظهرت تلك الحقبة كيف يمكن للتعاون والتنسيق المتبادل أن يحقق المصالح الوطنية، وأن يعزز الاستقرار في كلا البلدين. بعد 158 عامًا، عادت أمريكا وروسيا إلى ألاسكا للتنقيب عن أي عوامل مشتركة، حتى ولو كانت متجمدة في زمهرير القطب الشمالي، قد تسهم في ترميم العلاقات.
كتلتان كبيرتان، كان يمكن لهما تذويب قوتهما الخشنة، والانخراط في عالم مثالي من التعاون، غير أن هذا مخالف لمنطق الصراع ونواميس التدافع، لذلك التف كل منهما حول أيديولوجيته ووجه مدافعه وصواريخه نحو حليف الأمس. نظر الأمريكيون إلى ما أسموه الحكومة الاستبدادية في روسيا، وسخروا من «تخلفها» الثقافي، بينما انتقد الروس تطلعات أمريكا الإمبريالية وتمييزها العنصري. زاد التنافس على النفوذ في شمال شرق آسيا من توتر العلاقات، مما دفعها إلى أدنى مستوياتها بحلول عام 1914م. عمقت الثورة البلشفية والحقبة السوفيتية التي تلتها انعدام الثقة، حيث كانت أمريكا وأوروبا الغربية حذرة لدرجة القلق من الشيوعية، ومن جانبها عانت روسيا من الحصار الرأسمالي لمشروعها الاشتراكي.
على الرغم من هذه التوترات، برزت لحظات من التعاون خلال الحرب العالمية الثانية، إذ تحالف الطرفان ضد دول المحور، حيث وفّر برنامج إعارة وتأجير العتاد العسكري واللوجستي موارد حيوية للمجهود الحربي السوفيتي. أسهم ذلك التعاون في هزيمة ألمانيا النازية، وأظهر إمكانية التعاون من جديد بين روسيا وأمريكا في مواجهة التهديدات المشتركة. أدى الانفراج الذي أعقب الحرب الثانية إلى اتفاقيات للحد من التسلح، الأمر الذي قلل من خطر التصعيد النووي.
لقد جلبت حقبة ما بعد الحرب الباردة ديناميكيات متباينة في علاقة الطرفين، بلغت ذروة التفاؤل التسعينيات من القرن الماضي، حيث سعت روسيا بقيادة بوريس يلتسين إلى التكامل مع الغرب وفي طليعته أمريكا. ومع ذلك، فإن توسع الناتو وصراع يوغوسلافيا عام 1999م بعث المخاوف الروسية من جديد، وهو ما أدى إلى تدهور العلاقات أكثر بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014م، وغزوها أوكرانيا عام 2022م.
من المبكر التكهن بنتائج قمة الجمعة، إلا أن مجرد عقدها يرمز إلى الاستمرارية التاريخية، وقد يؤسس لنقطة تحول محتملة، في أحد الاتجاهين. يؤكد اختيار ألاسكا، على التاريخ المتشابك للدولتين. وتقريرا للواقع فإن العلاقات الأمريكية الروسية الإيجابية لطالما أسهمت في الاستقرار وتحقيق المكاسب المتبادلة، مثل شراء ألاسكا، والتحالفات في زمن الحرب. إلا أنه يصعب تجاوز الصراعات الأيديولوجية والنزاعات الإقليمية، التي تتسبب في حالة من عدم الاستقرار العالمي. فهل ستتيح قمة ألاسكا فرصةً لاجترار نجاحات الماضي وإسقاطها على تعقيدات الحاضر؟ أم أن خلافات الماضي قادرة على إطفاء أي أمل في التقارب؟
قدرة الزعيمين ترامب وبوتين في تغليب الدبلوماسية على التنافس الاستراتيجي قد تحقق نتائج إيجابية وتصل في نهاية المطاف إلى حلول دائمة للصراع الروسي - الأوكراني. وكما يُظهر التاريخ التعاون الممكن بين القوتين، فإن الاحترام المتبادل بين الرئيسيين حيوي لرسم ملامح المستقبل، والعكس صحيح.