د.عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
تسيطر الصين حاليا على ما يقرب من 90 % من تجارة المعادن النادرة عالميا، فإن أي اعتماد للولايات المتحدة على سلاسل التوريد الصينية يرفع من قيمة الصين الجيوقتصادية في معادلة التنافس، خصوصا مع توسع الصين حضورها الاقتصادي والجيوستراتيجي عبر مبادرة الحزام والطريق، مستثمرة في البنى التحتية والموارد وموقعة اتفاقيات مع حكومات محلية تمتلك احتياطيات من المعادن النادرة في آسيا، مثل كازخستان في آسيا الوسطى وفي أفريقيا.
تعتبر المعادن النادرة معادن حيوية تدخل في صناعة التكنولوجيا المتقدمة، بما في ذلك الطائرات، والصواريخ، وأشباه الموصلات، والبطاريات، وهي مجموعة تتكون من 17 عنصرا كيمائيا، على الرغم من تسميتها نادرة إلا أنها ليست نادرة بالمعنى الحرفي من حيث وفرتها في القشرة الأرضية، بل بسبب صعوبة استخراجها وتنقيتها بكميات اقتصادية، ويعد الليثيوم والكوبالت والمنغنيز والنيكل من أشهر المعادن الأرضية النادرة التي تشهد نموا متسارعا في الطلب عليها، لا سيما في صناعة البطاريات والسيارات الكهربائية وتقنيات الطاقة المتجددة بفروعها المختلفة.
قفز إنتاج المعادن الأرضية النادرة عالميا خلال السنوات ال10 الماضية بنسبة 186% ارتفع انتاجها من 104 ألف طن عام 2012 إلى 298 ألف طن عام 2022، ارتفع إنتاج الصين بمفردها عام 2022 بنحو 210 ألاف طن، ارتفع الإنتاج إلى 270 ألف طن في 2024، وحلت الولايات المتحدة ثانيا بإنتاج يبلغ 43 ألف طن، ارتفع إلى 45 ألف طن في 2024، وتأتي استراليا ثالثا بإنتاج 18 ألف طن، حلت رابعا بورما بإنتاج 12 ألف طن، ثم تايلاند وفيتنام في قائمة الكبار، أما الهند فحلت في المركز السابع بإنتاج 2.9 ألف طن فروسيا بإنتاج 2.6 ألف طن، واختتمت البرازيل قائمة أكبر 10 دول منتجة للمعادن الأرضية بإنتاج 800 طن فقط، بينما إنتاج بقية الدول وفق بيانات هيئة المسح الجيولوجي الأميركية تنتج نحو 16.3 ألف طن في 2022 منخفضا من 35 ألف طن عام 2021، تسمي تلك المعادن وزارة الطاقة الأميركية بمعادن التكنولوجيا التي أصبحت من الموارد الاستراتيجية التي تتنافس عليها الاقتصادات الكبرى في العالم.
تلعب الصين بورقة المعادن النادرة في حربها التجارية ضد الولايات المتحدة، حيث 70% من واردات واشنطن بين 2020 و 2023 جاءت من بكين، ونحو 93% من مركبات الإيتريوم المستوردة من الصين، كما تعتمد الولايات المتحدة على استيراد الإيتريوم بنسب 100% وهو يستخدم بشكل أساسي في المحفزات والسيراميك والإلكترونيات والليزر والمعادن والفسفور، ونحو 13% من ماليزيا، و6% من اليابان، و5% من إستونيا، ومن مناطق أخرى 6%.
ما جعل الصين تعلق شحنات المغناطيسات الضرورية مهددة بخنق إمدادات المكونات الأساسية لشركات صناعة السيارات، ومصنعي الطائرات، وشركات أشباه الموصلات، والمقاولين العسكريين حول العالم، ريثما تصوغ الحكومة الصينية نظاما تنظيميا جديدا، وفق صحيفة نيويورك تايمز، وبمجرد تطبيقه يمكن للنظام الجديد أن يمنع وصول الإمدادات إلى شركات معينة بما في ذلك المقاولون العسكريون الأميركيون بشكل دائم.
أثارت رغبة الرئيس ترمب في توقيع اتفاق مع أوكرانيا لاستغلال المعادن النادرة على أراضيها حيث تسيطر أوكرانيا على أكثر من 100 من رواسب المعادن الحيوية الرئيسية، كما تمتلك رواسب من 20 من المعادن ال50 التي تدرجها هيئة المساحة الجيولوجية الأميركية على أنها بالغة الأهمية لأمريكا، حيث تمتلك أوكرانيا معدن التيتانيوم في وسط أوكرانيا نحو 6% من الإنتاج العالمي، وتمتلك الليثيوم الذي يستخدم في البطاريات، وتمتلك أوكرانيا ثلث احتياطيات أوروبا، وتمتلك أيضا المنغنيز المستخدم في صهر الصلب، فضلا عن الزركونيوم المستخدم في صناعة قضبان الوقود النووي والماس الصناعي، كما تعد أوكرانيا من أكبر المنتجين في العالم للغرافيت المستخدم في تصنيع الصلب والمحركات الكهربائية، وتمتلك أكبر احتياطي من اليورانيوم في أوروبا الذي يستخدم في محطات الطاقة النووية. تسعى أمريكا نحو تقليص الاعتماد على الصين التي يمكن أن تستخدمها الصين ضد الولايات المتحدة، وبالفعل قيدت صادراتها إلى الولايات المتحدة في ظل أزمة الرسوم الجمركية، وسيطرت روسيا خلال الحرب على 70% من الموارد المعدنية في أوكرانيا إذ ينتشر العدد الأكبر منها في مناطق دونيتسك ولوغانسك الخاضعتين لسيطرة موسكو، ومنطقة دنيبرو التي يقترب منها خط المواجهة، إذ توجد في تلك المناطق رواسب الليثيوم والسترونشيوم والزركونيوم، كما تتفاوض أمريكا مع الكونغو التي تعتبر غنية بالكوبالت والليثيوم واليورانيوم وغيرها لتوقيع اتفاقية ضخمة بشأن المعادن الناردة، كذلك يأتي اهتمام الولايات المتحدة بكازخستان في آسيا الوسطى كونها تمتلك أكبر احتياطي من المعادن النادرة، مما يرفع من قيمة كازخستان الجيوقتصادية في معادلة التنافس.
إذ سبق أن وقعت الصين مع كازخستان اتفاقيات ضخمة لاستغلال المعادن النادرة عند زيارة الرئيسي الصيني لكازخستان في يونيو 2025 مستثمرة الصين الفراغ الأمريكي بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان عام 2021 ما قلص من الأهمية الاستراتيجية المباشرة لآسيا الوسطى في منظور واشنطن، في هذا السياق فإن هيمنة الصين على المعادن النادرة في آسيا الوسطى ليست مجرد تفوق اقتصادي، بل ورقة نفوذ جيوسياسية تمكن بكين من فرض شروطها في ملفات أوسع، فيضع كازخستان في قلب منافسة صامتة بين القوى، من أجل تقليص الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تقليص هيمنة الصين على امدادات سلاسل التوريد للمعادن النادرة، وإن كان هذا الطموح الأمريكي هشا بعدما ضمنت الصين عقد صفقات استراتيجية ضمنت لها الوصول إلى هذه المعادن لعقود مقبلة، مما يمنحها أداة ضغط جيوسياسية على خصومها، وبدأت تتبع كازخستان وأوزبكستان سياسة السعودية سياسة خارجية أكثر برغماتية تقوم على موازنة النفوذ بين القوى الكبرى بدل الاصطفاف الكامل مع طرف دون آخر، يسمى بالحياد الإيجابي أو النشط.
فقد امتد تأثير هذه المعادن لتصبح محورا رئيسيا في التنافس الجيوسياسي والاقتصادي بين القوى الكبرى، التي تصدرت المشهد في الآونة الأخيرة في سياق الحرب التجارية التي تجددت بين أمريكا والصين، ما جعل المعادن النادرة نقطة تقاطع بين التكنولوجيا والاقتصاد والسياسة، وأصبحت محور نقاش عالمي حول الأمن الصناعي والاستدامة والتنافس على النفوذ في الأسواق العالمية، حيث لم تعد المعادن النادرة مجرد مواد خام، بل أوراق قوة تتحكم بها الدول في صراع النفوذ العالمي، تهدف الولايات المتحدة وأوروبا إلى أن يعكس تحولا استراتيجيا في سلاسل التوريد العالمية، حيث تشير تقديرات المفوضية الأوروبية إلى أن احتياجات الاتحاد الأوروبي من معادن مثل الليثيوم ستتضاعف 12 مرة بحلول 2030، هذه التباينات أعادت للأذهان أزمة النزاع بين بكين وطوكيو عام 2010 حين ارتفع سعر أكسيد الديسبروسيوم 26 ضعفا خلال فترة وجيزة، في مواجهة هذه القيود سارعت الأسواق الغربية إلى تنويع مصادرها.
** **
- أستاذ الجغرافيا الاقتصادية والسياسية بجامعة أم القرى سابقا