د.محسن بن علي الشهري
في قلب التحولات الكبرى التي تشهدها المملكة تبرز رؤية 2030 بوصفها مشروعاً تنموياً حضارياً، لا يقتصر على إعادة هيكلة الاقتصاد، أو تنويع مصادر الدخل، بل يتجاوز ذلك إلى نماء القيّم الوطنية، ونسجها بمهارات القرن الحادي والعشرين بوصفها قوة دافعة نحو المستقبل، تحوّل الإنسان السعودي من متلق إلى فاعل، ومن ساكن إلى مبادر. ولذلك فإن هذا المقال يُسهم في تحليل العلاقة التكاملية بين القيّم الوطنية ومهارات القرن، بما يُحقق طموح الرؤية، ويُرسّخ مكانة المملكة في قلب التحول العالمي، دون أن تُفرّط في خصوصيتها الثقافية أو رسالتها الحضارية.
تعرف القيّم الوطنية بأنها المبادئ الأخلاقية والسلوكية التي تجسد هوية المجتمع، وتعبّر عن انتماء الفرد لوطنه، وتوجّه سلوكه نحو خدمة مجتمعه، وتتمثل هذه القيّم في الولاء والانتماء، والمواطنة الفعالة، وتحمّل المسؤولية الاجتماعية، والالتزام بالعمل والإنتاجية، والاعتزاز بالتراث والهوية الثقافية، والوسطية والتسامح. في حين تعرف مهارات القرن الحادي والعشرين بأنها مجموعة من القدرات المعرفية والسلوكية والتقنية التي يحتاجها الفرد للنجاح في بيئة عالمية تتسم بسرعة التغيير، والتطور، والتنوع، وهي مهارات ترتكز على التفكير الناقد، وحل المشكلات، والابتكار، والتعلم الذاتي المستمر، والتواصل الفعال، والعمل الجماعي، والثقافة الرقمية، والمرونة والتكيف، والمبادرة والريادة، والانضباط الذاتي.
إن العلاقة بين القيّم الوطنية ومهارات القرن الحادي والعشرين عميقة تكاملية، تُعيد تشكيل الفرد وفق منظومة قيمية تتسق مع تراثه، وهويته الوطنية، فالقيم تُوفّر البوصلة الأخلاقية التي تُوجّه المهارات نحو غايات نبيلة، بينما تُتيح المهارات للقيم أن تتحرّك في الواقع، وتُترجم إلى سلوكيات قابلة للقياس والتأثير.
فالمواطنة الفاعلة لا تتحقق بالولاء المجرد أو الانتماء العاطفي وحده، بل تتطلب منظومة متكاملة من المهارات والسلوكيات التي تُترجم هذا الولاء إلى أثر ملموس في الواقع، فهي أقرب ما تكون ممارسة عقلية وسلوكية تُجسّد القيّم الوطنية في الفضاء العام، وتُعيد تشكيل العلاقة بين الفرد والمجتمع، بحيث يُصبح المواطن شريكًا في التنمية، وحارسًا للهوية، ومُنتجًا للمعنى، لا مجرد مستهلك للإنجازات، إنها تتطلب مهارات التفكير النقدي الذي يُمكّن الفرد من التمييز بين المصلحة العامة والانحيازات الشخصية، والتواصل الفعّال الذي يُعزز الحوار المجتمعي ويُسهم في بناء التوافق، والمبادرة التي تُحوّل المواطن من متلقٍ للقرارات إلى مساهم في صناعتها، والانضباط الذاتي الذي يُرسّخ ثقافة الالتزام والمسؤولية، ويُعيد تعريف الحرية بوصفها قدرة على الاختيار الأخلاقي لا مجرد انفلات من الضوابط، والاعتزاز بالهوية لا يعني الانغلاق، بل يستدعي مرونة ثقافية، وقدرة على التفاعل مع الآخر دون ذوبان أو تصادم.
إن التمسك بالهوية الثقافية لا يعني الانغلاق أو الانفصال عن العالم، بل يُمثّل وعيًا حضاريًا بالذات، يُمكّن الفرد من التفاعل مع المتغيرات دون أن يفقد بوصلته الأخلاقية أو مرجعيته الرمزية، وفي هذا السياق تُصبح الثقافة الرقمية إحدى أدوات التعبير عن الهوية لا تهديدًا لها، خصوصا حين يُعاد توظيفها في خدمة القيّم الوطنية، وتعزيز الانتماء، وتوسيع دائرة التأثير الحضاري، فالفرد الذي يُجيد استخدام الوسائط الرقمية لنشر محتوى يُعبّر عن تراثه، أو يُناقش قضايا وطنه بلغة عالمية، يُمارس شكلًا متقدمًا من المواطنة الثقافية، ويُحوّل التقنية من أداة استهلاك إلى منصة إنتاج معرفي وقيمي، وهكذا يُصبح التمسك بالهوية الثقافية بوصفها قيمة وطنية.
إن بناء الإمكانات وتطوير القدرات في ظل رؤية المملكة 2030 لا يقوم على الفصل بين القيّم والمهارات، بل على نسجٍ تكاملي يُعيد تشكيل الذات الوطنية بوصفها فاعلة ومبادرة، أصيلة ومنفتحة، واعية بذاتها ومؤثرة في محيطها، فحين تُترجم القيّم الوطنية إلى مهارات حياتية، وتُوظّف المهارات المعاصرة في خدمة الهوية، يُولد المواطن الذي لا يكتفي بالانتماء، بل يُجسّده في الفعل، ويُعيد إنتاجه في الفكر، ويُسهم من خلاله في صياغة مستقبل وطنه بثقة ومسؤولية.