عبدالوهاب الفايز
انعقاد المعرض العربي الصيني السابع في مدينة (Ningxia)، نينغشيا الصينية خلال الفترة (من 28 إلى 31 أغسطس 2025)، حدث مفرح ويستحق الوقوف عنده وتحليل دلالاته. فهذا الحدث ليس مجرد فعالية تجارية عابرة، بل محطة جديدة في مسار الشراكة الاستراتيجية العربية - الصينية، ومؤشر عملي على أن ما أُعلن في القمة العربية - الصينية بالرياض عام 2022 لم يبقَ في دائرة الشعارات، بل يتجسد اليوم في مبادرات واقعية ومشاريع ملموسة.
حين زار الرئيس الصيني شي جين بينغ السعودية للمشاركة في القمة العربية والخليجية والعربية - الصينية بالرياض، جاء في الإعلام الغربي أن هذا اللقاء يمثل توجهًا سعوديًا جديدًا وانحيازًا واضحًا للصين ضد الولايات المتحدة وحلفائها. لم نهتم بهذه الآراء، ففي السعودية لا نقاس بالمواقف التي يضعنا فيها الآخرون، بل بما نعرفه عن ثقتنا بقيادتنا التي تتحرك وفق مصالحها العليا شرقًا وغربًا، وأيضا بثقتنا بأن القرارات السيادية لبلادنا تمارس قوتها في الحفاظ على التوازن والقدرة على التحرك بمرونة. وهذا في جوهره ليس انحيازًا، بل هو حراك سياسي ذكي يتيح للمملكة إقامة علاقات متوازنة مع كل القوى الدولية، القديمة منها والحديثة، ما دام يخدم مصالح شعبها وأمنها القومي.
لقد كانت قمة الرياض العربية - الصينية بداية نوعية لمسار جديد، حمل شعار «تعزيز الشراكة الاستراتيجية العربية - الصينية»، وركز على دمج الجهود في إطار مبادرة الحزام والطريق. واليوم يأتي المعرض العربي الصيني السابع استمرارًا عمليًا لهذه القمة التي اهتمت بالتعاون في المجالات التي يحتاجها العالم العربي مثل مجالات البنية التحتية والطاقة النظيفة والرقمنة، وهي القطاعات التي اتفق الطرفان على جعلها ركائز أساسية للتعاون المستقبلي.
ومن أبرز مخرجات تلك القمة أيضًا إطلاق برنامج التعاون العربي الصيني (2024-2026)، الذي يشمل مجالات التجارة والاستثمار والابتكار، ويأتي المعرض الحالي ليشكل منصة لتنفيذ هذا البرنامج عبر مشاريع الطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي والتقنيات الزراعية الذكية، في خطوة واضحة نحو الانتقال من التفاهمات العامة إلى التطبيق العملي.
الأرقام هنا لافتة للنظر؛ فقد وضعت قمة الرياض هدفًا برفع التبادل التجاري بين الصين والدول العربية إلى 400 مليار دولار بحلول 2025، غير أن هذا الهدف تحقق مبكرًا في عام 2024 حين بلغ حجم التبادل 407.4 مليار دولار.
وإذا كان هذا الإنجاز يعكس حيوية التعاون، فإنه في الوقت ذاته يفتح النقاش حول طبيعة هذا التبادل: فالميزان ما زال لصالح الصين، إذ تستورد المنطقة العربية أكثر مما تُصدّر. غير أن هذه الفجوة يمكن تجاوزها عبر الاستثمار في الصناعات التحويلية والرقمية وسلاسل القيمة المضافة، وهو ما يسعى المعرض لتسليط الضوء عليه من خلال جناح الذكاء الاصطناعي والتجارة الإلكترونية العابرة للحدود.
إلى جانب الأرقام، تكشف المبادرات النوعية عن عمق جديد في التعاون.
من ذلك مبادرة مجموعة Suzhou Land Group لإنشاء مركز الأعمال الصيني - السعودي في مدينة Changshu بجنوب الصين، والمركز مصمم ليكون منصة دائمة للشركات من البلدين، وتضم حاضنات أعمال ومسرّعات، وتبني نموذج مستوحى من التجربة الألمانية - الصينية في التعاون الصناعي.
وهناك أيضًا مبادرة Generations Fund صندوق الأجيال للاستثمار في التقنية العالية، الذي يركز على مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، ويجمع بين القطاعين العام والخاص في السعودية والصين. ويهدف الصندوق إلى تعزيز التكامل مع أهداف رؤية السعودية 2030 الساعية لتنويع الاقتصاد وتعزيز الابتكار وخلق بيئة استثمارية جاذبة.
وطفرة النمو في قطاع التقنيات المتقدمة توفر فرصا واعدة للشركات وللمستثمرين السعوديين للاستفادة من نمو الشركات الناشئة، ومن منتجات الابتكار والاختراع الذي ينمو سريعا، بالذات في الذكاء الاصطناعي وقطاع السيارات الكهربائية.
مثلا، قدمت هواوي مؤخراً طلبا لتسجيل براءة اختراع لصناعة بطارية كهربائية بنطاق 1800 ميلا، أي بكثافات طاقة تتراوح بين 180 و225 واط/ رطل، أي أعلى مرتين إلى ثلاث مرات تقريبا من بطاريات السيارات الكهربائية النموذجية الحالية، والصين سعيدة حاليا بهيمنتها في سوق السيارات الكهربائية، وهي حريصة على عرض الابتكارات التي يمكن أن تعيد هذه تشكيل الصناعة.
ولا يقتصر التعاون الصيني - العربي على الاقتصاد فقط، بل يمتد إلى البعد الثقافي والإنساني.
فالتبادل الطلابي والبحثي في تزايد، ومعاهد اللغة الصينية في العواصم العربية تفتح مسارات جديدة للفهم الحضاري المتبادل، بينما يشهد العالم العربي إقبالًا متزايدًا على تعلم اللغة الصينية. والأسبوع الماضي أعلنت السعودية عن بدء تدريس اللغة الصينية في المرحلة المتوسطة بعد اطلاقها في التعليم الابتدائي.
إن هذا التبادل الثقافي يضيف عمقًا للشراكة ويجعلها أكثر استدامة، لأنه يربط بين الأجيال القادمة لا بين الحكومات والشركات فقط.
في الوقت نفسه، تتجلى الدلالات الجيوسياسية بوضوح. فالصين تدرك أن أمنها في إمدادات الطاقة يمر عبر الخليج، وأيضا أسواقها الحيوية تمر عبر شمال إفريقيا وموانئ المتوسط. أما الدول العربية، فهي تدرك أن العالم يتغير بسرعة وأن التعددية القطبية تمنحها فرصة لتقليل الارتهان للغرب والانفتاح على الشرق. وهكذا يصبح المعرض العربي - الصيني السابع ليس مجرد منصة تجارية، بل جزء من إعادة تشكيل موازين القوى في النظام الدولي، حيث تتحول المنطقة العربية من ساحة نفوذ إلى لاعب شريك في صياغة المستقبل.
وعند النظر في المشهد ككل، يتضح أن المعرض العربي - الصيني السابع هو أكثر من حدث اقتصادي؛ إنه جسر يربط بين السياسة والاقتصاد والثقافة، ويضع الاستدامة والابتكار في صدارة الأولويات.
وإذا كان طريق الحرير القديم قد حمل البضائع والتوابل، فإن طريق الحرير الجديد يجب أن يحمل الأفكار والتقنيات والحلول للتحديات المشتركة.
ويبقى السؤال الكبير: هل سيكون العرب في هذه المرحلة شركاء فاعلين في صياغة التاريخ الاقتصادي العالمي، أم مجرد ممرات لمصالح قديمة وجديدة؟