بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945 بدأت حقبة جديدة في العلاقات المتعددة الأطراف من خلال تأسيس الأمم المتحدة خلفا لعصبة الأمم بشكل أوسع عبر هيكلتها بستة أجهزة رئيسية تتوزع المهام والواجبات الدولية فيما بينها وهي: الجمعية العامة ومجلس الأمن والمجلس الاقتصادي والاجتماعي ومجلس الوصاية ومحكمة العدل الدولية.
ومنذ ذلك الحين يتمثل دور الأمم المتحدة حسبما نص عليه ميثاقها التأسيسي بالحفاظ على السلم والأمن الدوليين وتقديم المساعدة الإنسانية للمحتاجين وحماية حقوق الإنسان والتمسك بالقانون الدولي.
وتعددت أسباب وانعكاسات تراجع الدور المعهود للدبلوماسية متعددة الأطراف، فمع مرور الوقت وتصاعد التوترات والخلافات في البيئة الدولية التنافسية في المواقع الجيوسياسية الحساسة مع انتشار ظاهرتي النزاعات الشائكة والحروب الدامية. ما أودى بحياة الكثير من الأبرياء على كوكب الأرض وخلق مأساة جديدة للمهجرين والمشردين في فصل القانون الدولي الإنساني. وأصبحت إخفاقات الأمم المتحدة واضحة في القيام بالمهام الجوهرية المنوطة بها وعلى رأسها تحقيق السلم والأمن الدوليين.
ويتوافق ذلك مع بروز تجاهل القوى المؤثرة لأية قرارات صادرة عن الأمم المتحدة إيمانا منها بأن هذه المنظمة وضعت لتكون مجرد منصة عالمية للتعبير عن الآراء وتبرير المواقف، وما يزيد من الطين بلة هو عدم وجود فاعلية ملموسة لآليات عمل أجهزتها الرئيسية في المنظومة الدولية. انعكاسًا للتراجع المستمر في مفهوم الدبلوماسية متعددة الأطراف التقليدية وضعف الثقة بالمؤسسات والمنظمات الدولية في ظل الظروف الدولية الراهنة.
وعلاوة على ذلك تتزامن هذه الأحداث مع تنامي ظاهرة التعددية المصغرة Minilateralism أو ما يمكن تسميتها في بعض المواقف بالتكتلات المصغرة، والتي تعرف بالآتي:- (هو قيام مجموعة من الدول تتسم بصفتي العدد المحدود والقوة المؤثرة إقليميا ودوليا، بإنشاء تكتل سياسي واقتصادي وأمني يأخذ الطابع الرسمي وغير الرسمي، بهدف ترسية مصالحهم المشتركة عبر التكامل بين أطراف هذه المجموعة).
ومن هذا التعريف نستنبط بأن التكتلات المصغرة يجمع أطرافها مقومات معينة من نفوذ جيوسياسي ونمو اقتصادي قوي ومنظومة أمنية متكاملة ومواقع جغرافية متميزة والعامل الأبرز هو العدد المحدود. مما سيؤدي إلى توحيد الجهود والمساعي لزيادة نفوذ التكتل المشترك على المواقع الحساسة ونقاط الصراع في العالم لتأمين التجارة الخارجية لهذه الدول وحماية مصالحها الأخرى، وفي نفس الوقت الحد من أي توسع للقوى المضادة في النظام الدولي. فبذلك يكون هذا النمط من الأشكال التعددية الأكثر تأثيرا وتغلغلا في السياسة الدولية لاستخدام أطرافها أدوات فعالة تسيطر من خلالها على ميزان القوى الدولية.
والجدير بالذكر هنا بأن ظاهرة التعددية المصغرة ليست بحديثة في قاموس السياسة الخارجية، إذ كانت بذرتها الأولى عند إنشاء مؤتمر أوروبا (مؤتمر فيينا) في مرحلة الوفاق الأوروبي بالقرن التاسع عشر بهدف إعادة رسم الترتيب الجغرافي السياسي في العالم وإعادة توازن القوى الأوروبية في ذلك العصر.
وقد أُسس هذا التكتل عبر التحالف الرباعي بين النمسا وبروسيا وبريطانيا وروسيا لمواجهة توسع النفوذ الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت، وبالفعل حُققت غاية مؤتمر فيينا بعد انتصار أطرافه على القوات الفرنسية وإسقاط نابليون والدخول في حقبة سياسة جديدة.
ومن النماذج المعاصرة للتعددية المصغرة، إنشاء مجموعة السبع للدول الصناعية في سنة 1973، فمن الملاحظ أن هذه المجموعة اتسمت بعامل مشترك أساسي هو الصناعة التي ساهمت في تعزيز النمو الاقتصادي لأطرافها وفرض سيطرتها على الأسواق العالمية لفترات متتالية.
وقد تطورت المجموعة بشكل تدريجي حتى أصبحت ملتقى سياسيًا بارزًا بين سبع دول لها تأثير واسع في الساحة الدولية وتسيطر على ما يقارب 42 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. كذلك لا يمكن إغفال الحرب التجارية ضد الصين كون المجموعة تتهم بكين بانتهاج سياسات صناعية غير عادلة.
ولم يُكتفى بذلك الحد، بل ظهرت تكتلات مصغرة أخرى ولكل منها مهام معينة مثل مجموعة الحوار الأمني الرباعي بين اليابان والولايات المتحدة والهند وأستراليا، والتي تتمركز في منطقة الهندي الهادئ ذات البعد الأمني الاستراتيجي ونقطة انطلاق الأسطول السابع للبحرية الأمريكية المتواجد لحماية مصالحها في تلك المنطقة والحد من التوسع الصيني بشتى السبل.
وكنتيجة لما حققته هذه التكتلات الدولية المصغرة من نجاح في تعزيز نفوذها بالبيئة الدولية وفقًا لفاعلية استخدامها لهذا المفهوم حسب المصالح المشتركة، وكذلك نتيجة لزدياة حدة التنافس الجيوسياسي بين أمريكا وحلفائها من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى.
فقد أنشئت مجموعة بريكس كتكتل مصغر يجمع دولاً لا تقل أهمية عن تلك الموجودة في التكتلات المضادة لها، بهدف تغيير المعادلة في النسق الدولي من هيمنة الولايات المتحدة على البيئة الدولية ليكون هناك نظام دولي متعدد الأقطاب.
فمن منظور بريكس إن الأطراف المؤسسين للمجموعة يمتلكون العناصر والصفات المحددة لطبيعة القوى العالمية في البيئة الدولية. وخاصة من الناحية الاقتصادية فالناتج الناتج المحلي الاجمالي لأعضاء بريكس يتجاوز الـ40% من حجم الاقتصاد العالمي.
ونظرا للتطورات الأخيرة وظروف الأزمة الأوكرانية الروسية وتصاعدها عسكريا مع إطلاق حملة دبلوماسية من قبل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي ضد روسيا تجاه هذه الأزمة وإدانتها بشكل كامل في غزو أوكرانيا. أدى بطريقة أو بأخرى إلى قيام مجموعة بريكس بتوسيع عضويتها حتى انضمت إليها خمس دول إضافية، وهي أثيوبيا وإيران والإمارات ومصر وكأن آخرها إندونيسيا في يناير 2025.
وبهذا الشكل تكون مجموعة بريكس نموذجا جديدا من التعددية المصغرة التي تتسم في إطارها العام بهيكلة مماثلة للمنظمات متعددة الأطراف التقليدية، ولكنها في دواعي توسيعها تعتمد على مبدأ الاستقطاب السياسي في الساحة الدولية رغبة منها في الانتقال لمرحة نسق دولي متعدد الأقطاب. رغم أن ما يزيد الحيرة في هذا الأمر هو أن البعض من أعضاء بريكس لديهم تحالفات أمنية وسياسية متجذرة مع واشنطن وليس من السهل التخارج منها.
وفي الختام، يبدو أن الدبلوماسية المتعددة الأطراف التقليدية لم تعد مجدية بحسب السيناريوهات المتداولة في السياسة الخارجية للدول، نتيجة للتطورات والمستجدات في بيئة العلاقات الدولية بوقتنا المعاصر، لكن هل لا بد للدول الطامحة في توسيع دورها في الساحة الدولية أن تجد لها مكانًا في واحدة من هذه التكتلات للسير في طريق محدد وخلق مصلحة مشتركة مع نظرائها الآخرين ضمن طابع مشترك. وهل ستكون المرحلة المقبلة من النظام الدولي أكثر تنافسية عبر هذه التكتلات والدخول في مزيد من الصراعات الجيوساسية والحروب التجارية وغيرها من التطوارات المستمرة في التكنولوجيا والابتكار.
كل ذلك يتطلب من مراكز الفكر والأبحاث السياسية في منطقتنا من إجراء بحوث وتقارير مكثفة عن ظاهرة التعددية أو التكتلات المصغرة لشح الدراسات والأبحاث المتخصصة في هذا الموضوع البارز؛ لأن هناك حاجة ملحة لإيجاد مضمون واف وشرح شامل لهذه الظاهرة وإدراجها في أدبيات السياسة الخارجية، ولا بد أن ينطوي ذلك على أساس علمي دقيق من أجل إمداد صانع السياسة الخارجية بتفسيرات وتنبؤات واضحة عنها وعن آخر الظواهر المستجدة في العلاقات الدولية.
** **
- عبد العزيز بن عليان العنيزان