د. محمد بن إبراهيم الملحم
في المقالة الأولى قدمت لحديثي عن هذه الرافعة أنها تتمثَّل في الذكاء الاصطناعي AI والذي يمكنه أن يرتقي بأداء المعلم بشكل كبير فيتحسن كل من التدريس وتقديم الخدمة التعليمية للطالب، واستشهدت في البداية بتعليم أستونيا والتي حققت مستويات مشرِّفة (ومستقرَّة) في الاختبارات الدولية ووضحت مصادر القوة والجودة في نظامها التعليمي كدليل على حسن الاستشهاد بها في الدعوة إلى تطبيق إدماج الذكاء الاصطناعي في تعليمنا، وكان أهم تطبيق لدى أستونيا متمثلاً في تقديم التحليلات النوعية للمعلم حول الطالب مما يساعده على اتخاذ قرارات تعليمية ممتازة ودقيقة وسريعة حول طلابه الأمر الذي يرتقي بأداء المعلم ويقدم فوائد عدة أيضاً للطالب، ولا شك أن تطبيق مثل هذه التحليلات بالذكاء الاصطناعي سبقه في الوضع العادي تأسيس ثقافة تحليل البيانات التعليمية لدى المعلمين وذلك بالطرق اليدوية، وهو ما حدث لدينا في تعليمنا كمحاولات وكنت ممن يهتمون بهذه المدرسة (التحليلية) وحاولت كثيراً إقناع المعلمين (والمشرفين) بأهميتها وقدمت برامج تدريبية كثيرة في هذا المجال إلا أن التطبيق فيما بعد التدريب ضعيف جداً والبرامج التدريبية لا يكون لها أثر لاحق وهو ما أعلمه أيضاً عن تجارب زملاء آخرين في مناطق أخرى عندما نتحدث في هذا الشأن، وللتوضيح أكثر، فإن هذه التحليلات تنطلق من إجابات الطلاب على فقرات أسئلة الاختبار الذي يجريه المعلم (حتى لو كان اختباراً قصيراً ضمن الحصة مثلاً) فيقوم المعلم بوضع درجة كل فقرة لكل طالب في قوائم خاصة ويعيد ترتيبها بطريقة معينة تم تدريبه عليها ثم يستخرج منها معاملات بواسطة معادلات بسيطة تتضمن بسطاً ومقاماً ونسبة مئوية، وما ينتج هو نسب مئوية تتحدث عن كل فقرة أو سؤال كمؤشرات علمية تخبرنا عن جودة ذلك السؤال وهل يحافظ المعلم على استخدامه مستقبلاً أو يقوم بتعديله أو ربما بإلغائه. والوصول إلى هذه النسب يتطلب جهداً حسابياً من المعلم في الطرق اليدوية وجهداً عملياً في الطرق المعتمدة على برامج جاهزة مثل إكسل، حيث يتولى البرنامج إجراء الحسابات واستخراج المعاملات الممثلة لمؤشرات الجودة التي يريد المعلم الوصول إليها، بيد أنه ينبغي على المعلم أن يدخل علامات الطلاب إلى هذا البرنامج، وهو ما نقصده بالجهد العملي المطلوب من المعلم. كما أن هناك أنواعاً أخرى من التحليلات تتناول مستوى كل طالب وتقدمه عبر الزمن أو حتى تشخيص في أيجزء من محتوى المنهج أو مهاراته تكمن الصعوبة لديه، مما يساعد على مساعدته والارتقاء به.
ولا شك أن ما تتطلبه هذه التحليلات من قدرة «تحليلية» ضمن إمكانيات المعلم العلمية والفكرية لا نضمن توافره لدى كل المعلمين، ومع أن تجاربنا (نحن أصحاب هذه المدرسة التحليلية) كانت مع معلمي العلوم والرياضيات فقط، أي مع الفئة الأكثر جودة في مجال التفكير التحليلي، إلا أن مردودها لم يكن مشجعاً أبداً، ومرد ذلك إلى سببين أولهما اقتصار هذا النشاط على هذه الفئة من المعلمين مما يجعلهم ينفرون من استفرادهم بنشاط متعب ومرهق ذهنياً وعملياً بينما يتمتع غيرهم بالراحة وقلة العمل! والثاني كون هذا العمل مبادرة إضافية تطويرية وليست متطلباً للمهنة فرضته الجهة التعليمية بتعليماتها المنظمة، ومن ثم فأعتقد أن توفير أنظمة ذكاء اصطناعي تقوم بالدور كاملاً أي تقديم المحتوى للطالب (شبه تدريس رقمي) وإجراء التحليلات والتفكير في نتائجها ثم تقديم توصيات حولها، سيقفز بمثل هذا الإجراء قفزة كبرى فلا يبقى للجهة التعليمية سوى تدريب المعلمين على استخدام هذه الأداة ومطالبتهم بالأخذ بتوصياتها مع تثقيفهم قبلاً على ما تتضمنه هذه الأداة من مضامين تربوية وعلمية.
ونؤكد مرة أخرى أن تحليل نتائج الاختبارات والتقييمات وتتبعها لكل طالب على حدة ليس أمراً سهلاً وميسوراً خاصة في ظل وجود عدد كبير من الطلاب في الفصل وكثرة عدد الفصول التي يقوم المعلم بتدريسها سنوياً، أما لو تصورنا أن المعلم يتعامل مع عدد محدود من الطلاب ولنفترض 20 إلى 25 طالباً في الفصل وكذلك عدد محدود من الفصول فإنه ربما يمكنه أن يقوم بهذه التحليلات يدوياً (أو حتى بمساعدة برامج الكمبيوتر مثل إكسل)، ومع ذلك فإن إدخال العلامات أو المعلومات الأولية لمثل هذه التحليلات يمثِّل في ذاته عبئاً على المعلم والمعلمة حتى لو كان عدد الطلاب محدوداً، ولكن لا شك أن استخدام أنظمة تدريس واختبار تقوم على الذكاء الاصطناعي سيجعل الفرق كبيراً جداً، بل لا مقارنة بين الحالين. وربما يتساءل أحدهم: ماذا يصنع المعلم إذن إذا كان النظام هو ما يقدم المحتوى التدريسي للطالب؟ فنقول إن المعلم لا غنى عنه والسيناريو الأمثل يتطلب وجود المعلم للتوجيه والأخذ بأيدي الطلبة في رحلة تعلّمهم مهما كان دور التقنية محورياً وأساسياً، وهذا الموضوع يمكن التفصيل فيه أكثر ولكن ليس هذا مجاله حالياً، والوقفة الحالية إنما هي لشرح كيفية تطبيق الذكاء الاصطناعي وقد رأيتها أساسية لوضع أرضية لما سوف أعرضه، حيث سوف أستكمل الحديث في المقالات القادمة عن دول أخرى.
** **
- مدير عام تعليم سابقاً