مرام فهد المشاري
من المروءة والأنفة عند العرب أن الأمين لا بد أن يؤتمن، وأن الودائع من الواجب أن تصان، والأمانات من الضرورة أن تُرعى خير رعاية، ذاك وإن كانت بين العبد والعبد، وإن كانت جمادات كالمال والأرض والسر، فكيف بها وإن كانت بين الرب والبشر، والمستودع روح وجسد!؟
يهبنا الله الأبناء مطلق الزينة في الحياة الدنيا، يهبنا تلك الودائع أمانات ثمينة لا تقدر بثمن، والمأمول أن نصون العهد والأمانة بحسن الغرس والمعاملة، ليس الإحسان فقط بدعم الحاجات المادية فتلك بديهيات لو لم تنو الالتزام بها لما أنجبت، لكن الأهم والأعمق تلك الحاجات النفسية والاجتماعية والعاطفية التي تحتاج لإشباع شديد في مرحلة الطفولة المبكرة، وليس مجرد إشباع بل إشباع سوي وصحيح وسليم، لتخرج للمجتمع جيلا قادرا ومتمكنا يساهم في دفع عجلة الحياة لنفسه ولمجتمعه.
أثر الوالدين على الأبناء كالجذمور في النبات، لا يدرك بعضهم لأي درجة قد تؤثر سنوات الطفل الأولى على مستقبله وأفكاره وسلوكياته وتعاطياته مع أقرانه ومع نفسه قبل ذلك، هذا الأثر المتروك في نفس الطفل هو أعظم وأهم ما يورثه والداه له، بل هو المفصل الحقيقي للتحرك مستقبلاً.
في كتاب اغتصاب العقل والذي صدر في أعقاب الحرب العالمية الثانية وأهوالها، خط بيد الدكتور النفسي جوست ميرلو الذي شهد حدود الطاقة البشرية ونقاط انهيارها، تحدث في أحد فصوله عن تأثير الوالدين العميق على الطفل الذي يكبر لاحقاً برغبات قهرية وروح سجينة وأذى مستدام يطال كل ماحوله، لك أن تعلم أن جذور سلوكياتنا ومشاكلنا في مرحلة البلوغ كانت تفاعلات على تلك المدخلات التي تعرضنا لها في سنوات ولادتنا الحديثة ربما أول سنتين، تلك المرحلة التي قد يبدو بها الطفل كدمية تفتقد الإدراك لكنها في الحقيقة تخزن كل ماتمر به من تمتمات وأصوات ومشاعر ليظهر على السطح لاحقاً، لك أن تتخيل إلى بعد أي خلية داخلية قد تلامس طفلك بحقيقتك وتكوينك وسلوكك، تربية الطفل على الطاعة التامة المطلقة تنتج أفرادا ينهارون أمام الضغوط، وهذا ما لاحظه الكاتب خلال الحرب حين تم استجواب بعض الضباط بقسوة، في تلك المرحلة المبدئية وفق احتياجاته العديدة للتكيف تجده يعتمد على العملاق الذي أنجبه، هذا العملاق هو قدوته وهو ملاذه الآمن، هذا العملاق هو من يعلمه مفهوم الصواب ويزرعه في أعماقه سواء كان صواباً أم لا، هناك من يربون أبناءهم بسلوك شرطي خانع، وهناك من يحرمونهم من حقيقة التعبير عن أنفسهم وعن حاجاتهم، وهنا يدفعانه للتعبير بطرق أخرى كالبكاء والصراخ، لكن هنا تكمن جذور المشكلة حين تتحول تلك المشاعر إلى بذور تنمو معهم، فتجده حين يكبر يمارس سلوكيات غير مرغوبة كالخضوع الذليل، والحاجة الملحة للامتثال، وغيرها.
بينما تجد منهم أيضاً من يرعى الأمانة بعينيه، ويلمعها بسلوكيات الحب والحنان والعطف، من يعلمون أبناءهم لغة الحوار وفهم التعاطف، هم حقاً من ينتجون أفرادا أسوياء براقين، قادرين على مجاراة الحياة بمنعطفاتها بشكل مقبول لهم ولمن حولهم.
أثبتت العديد من الدراسات النفسية والاجتماعية أن سلوك الأبناء ليس مجرد انعكاس لدور الوالدين، بل منظومة عميقة تتقاطع فيها القيم والسلوكيات وأنماط التفاعل اليومي، يساهم الوالدان في نسج شخصية أبنائهم وأجمل النسج ماكان زاهياً ودافئاً.