أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
تُسرَدُ أخبار أقوام جزيرة العرب وما جاورها في القرآن الكريم وفق نسق نماذجي سردي جيوتاريخي تسلسلي زمني تارة وموضوعي غير زمني منهجي السياق تارة أخري. ويمكن تتبع النمط الزمني من السرد القرآني في ست سور مكية هي: الأعراف، وهود، وإبراهيم، والفرقان، وغافر، والقمر إضافة إلى سورة الحج التي تعد السورة المدنية الوحيدة التي رصد فيها هذا النمط في آيتين فقط من آياتها. ويضم النمط السردي القرآني الزمني المشار إليه آنفاً أقواماً عديدة هم: قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وقوم شعيب، وقوم فرعون.
ويلحق بهؤلاء الأقوام في بعض السياقات القرآنية أصحاب الرس الذين هم فرع من ثمود، وأصحاب الأيكة الذين هم فرع من قوم مدين، إضافة إلى قوم تبع. ويعد التفصيل في هذا النمط من السرد خارج اهتمام هذا المقال، ولكن يمكن الوقوف ابتداءً على تفاصيل هذا النمط العظيم من السياقات القرآنية بالعودة إلى المقال الموسوم «ثمود والثمودية كما أرخها القرآن الكريم» الذي حبره المرحوم الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الطيب الأنصاري ونشر عام 2001م في مداولات اللقاء العلمي السنوي الثالث لجمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية بجامعة السلطان قابوس في مسقط». كما يمكن الرجوع في هذا الشأن إلى المصدر التالي: «الأنصاري عبدالرحمن الطيب وأبوالخير يحيى محمد شيخ 2014م، نحو فهم السرد التاريخي في القرآن الكريم، أدوماتو، العدد التاسع والعشرين، مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية، الجوف، المملكة العربية السعودية، ص 113-122». ولعل العودة أيضاً إلى: «أبوالخير، يحيى محمد شيخ، 2023م، منظور أ. د. الأنصاري بين البعد الآثاري والحس المكاني: قراءة تحليلية لمدرسته الآثارية، أدوماتو ع 48، مركز عبدالرحمن السديري الثقافي، الجوف، المملكة العربية السعودية، ص ص 39- 46 « يضيف تفاصيل مفيدة أخرى في هذا المجال. كما أنصح قرائي بالرجوع في هذا الصدد أيضاً إلى مقالتي المحفوظة بأرشيفي في صحيفة الجزيرة بالعنوان التالي: «المنظور الآثاري لمدرسة أ. د. عبدالرحمن الأنصاري المدرجة تحت التسلسل 3 - 4، 31 مايو من عام 2024م». ولعل كتابي الموسوم «الأستاذ الدكتور عبدالرحمن بن محمد الطيب الأنصاري: فكر وريادة، الطبعة الأولى التي نشرتها دار جامعة الملك سعود للنشر بالتعاون مع الجمعية الجغرافية السعودية، عام 2025م، ص 29-32 يُزود قرائي في هذا المجال بمعلومات إضافية في مجال منهجية التحليل لهذا النمط من السياقات القرآنية.
أما المقصود بالسرد الموضوعي لأقوام الجزيرة العربية وما جاورها، مجال هذا المقال وغايته، فهو نمط من السياق القرآني الذي تُرَتَّبُ بموجبه الأقوام على مستوى السورة أو الآيات القرآنية ضمن منظومة موضوعية غير زمنية مؤلفة من قضايا عديدة تقتضيها البنية الجغرافية المعلوماتية الزمكانية السردية للأحداث من ناحية، وأغراض السرد الجيوتاريخي الموضوعي في السور والآيات المعنية بذلك الترتيب من ناحية أخرى وفقاً لما سيأتي تفصيله أدناه. ويمكن تتبع هذا النسق الموضوعي من السرد بشكل رئيس في عشر سور قرآنية مكية خصصت لكم منها ست سور فقط نتيجة للصلة القصوى لتلك السور المختارة بأهداف وغايات هذا المقال من ناحية، وضيق المساحة المخصصة لنشر مقالي من ناحية أخرى. ويضم هذا الاختيار السور التالية: الشعراء، والعنكبوت، وص، وق، والذاريات، والحاقة التي سيأتي توضيح مراميها جملة وتفصيلاً لاحقاً عبر عدد من النماذج التي سوف أسرد في ثناياها منهجية النمط الموضوعي المساق المتعلِّق بكل سورة من السور الست المختارة الآنفة الذكر. ومن الجدير التنويه هنا أن متون هذا المقال منهجاً وأسلوباً ونمذجة قد أقتبس بتصرف حذفاً وإضافة وتدقيقاً وتنقيحاً واختصاراً من المقال المنشور في أدوماتوا عام 2014م المشار إليه أعلاه. واستناداً إلى ذلك المصدر يمكن ابتداءً حصر هذا النسق القرآني الجيوتاريخي الموضوعي لأقوام جزيرة العرب وما جاورها منهجياً في عدد من القضايا والموضوعات التي منها تحديداً شرك الأقوام وإشهار إلحادهم إضافة إلى إسناد الخبر في السياقات القرآنية إلى أقرب جار من النبأ والسير بالخبر في خط تتابعي من الأحدث إلى الأقدم كما في سورة الشعراء. كما تتضمن تلك القضايا أموراً تتعلَّق بنجاة الرسل من العذاب الذي حل بأقوامهم من عدمه كما في سورة العنكبوت، هذا فضلاً عن قضايا تتصل بسابقتها كشمولية العذاب الذي حل بأولئك الأقوام أو خصوصيته كما في سورة العنكبوت وسورة ص. وتندرج ضمن تلك القضايا والموضوعات التي تُصنفُ في ضوئها أقوام جزيرة العرب وما جاورها موضوعياً قضية تصنيفية هامة تتعلَّق بشدة تكذيب الأقوام لأنبيائهم ورسلهم كما في سورة (ص)، بل وشدة العذاب وسرعته كما في سورة الحاقه، إضافة إلى قضية التجانس الفكري والعقدي والحزبي بين الأقوام كما في سورة ق من ناحية، وطبيعة مسار السياق القرآني واتجاهاته مرتكزاته المرجعية كما في سورة الذاريات من ناحية أخى.
إضافة إلى ما ذكر آنفاً، فقد قمت بتحليل الترتيب الجيوتاريخي الموضوعي غير الزمني لأقوام جزيرة العرب وما جاورها في القرآن عبر توظيفي منهجياً لعدد من الأساليب والطرق العلمية الدقيقة لتحليل المحتوى كالتبويب المنهجي للأقوام وترتيبهم على مستوى السور أو الآيات القرآنية بالاعتماد على أساليب القياس المتعلِّقة منهجياً بمنطق مسلك مختلف الأقوام قيد الاحتجاج كما هو الحال في سورة الشعراء، إضافة إلى توظيفي في هذا لمجال لأسلوب العنقدة النوعية للأقوام وترتيبهم على مستوى السورة ضمن سياقات عنقودية ترتكز مرجعياً على أصل تصنيفي قياسي تعميمي استقراء - استدلالي تحليلي ديناميكي صرف كما هو الحال في سورة العنكبوت. كما يشمل هذا التوظيف جوانب المفارقة والمقاربة النوعية التي تتضمنها أنماط التحليل لمحتوى المتون القرآنية على مستوى السور أو الآيات ذات العلاقة الوثيقة بالأجناس التصنيفية للأقوام وترتيبهم بناءً على مختلف الأساليب المقارنة الحضورية السجل كما هو الحال في سورة ق، هذا فضلاً عن توظيفي في هذا الصدد لعدد من طرق التدوير الاستقرائي للأقوام على مستوى السور والآيات المعنية بالنظر اعتماداً على مرتكزات منهجية استدلالية مرجعية محددة أسلوبياً كما هو الحال في سورة الذاريات. وتعد طرق التصنيف المقارن لأنماط العذاب الذي حلَّ بالأقوام وترتيبهم على مستوى السور والآيات القرآنية المعنية من أهم الطرق التي تم توظيفها للكشف عن طبيعة تلك الأنماط بالاعتماد فيزيائياً على مدى سرعة العذاب الذي حلَّ بالأقوام وحدة الصوت المصاحب له من حيث الدرجات الطيفية والترددات الموجية كما هو الحال في سورة الحاقة. واستناداً على أساليب التصنيف والطرق المنهجية الموضحة آنفاً أعلاه يمكن تتبع النمط السردي القرآني الجيوتاريخي الموضوعي غير الزمني لأقوام جزيرة العرب وما جاورها من خلال عدد من النماذج السياقية التحليلية التالية:
- الأنموذج الأول: سورة الشعراء (26) الآيات (10-190) مكية.
يعتمد السرد الموضوعي الذي تحويه الآيات المذكورة أرقامها أعلاه من سورة «الشعراء» منهجياً في اعتقادي على مبدأ قياس الحدث على منطق مسلكه وعلى تطبيق مفهوم الاستشهاد بأقرب جار على حساب تأخير الاستشهاد بالجار الأبعد في السرد. ولذلك صنفت الأقوام في هذه السورة بناءً على هذا المنطق إلى مجموعتين الأولى منهما الأقوام المشركة والثانية الأقوام الملحدة. فتتضمن مجموعة الأقوام المشركة قوم فرعون وقوم إبراهيم، والسبب وراء هذا الترتيب في تقديم قوم فرعون على قوم إبراهيم هو أن فرعون نصب نفسه إلهاً من دون الله، أما قوم إبراهيم فقد جعلوا لأنفسهم آلهة يعبدونها من دون الله. ولا شك أن الابتداء بقوم فرعون ثم بقوم إبراهيم عليه السلام بعد فرعون هو ترتيب منطقي بُني على قضية عقدية صرفة، ولهذا تقدم في هذا السياق القرآني من نصب نفسه إلهاً على من اتخذ آلهة من دون الله. إضافة إلى أن قوم فرعون يعدون أقرب عهداً للنبي صلى الله عليه وسلم من قوم إبراهيم، ولذلك تدرج الخطاب القرآني منهجياً من الجار الأقرب كقوم فرعون إلى الجار الأبعد زمنياً كقوم إبراهيم.