أحمد الجروان
مع تصاعد وتيرة الاعتماد على مترو الرياض، وتحوّله إلى جزء من تفاصيل الحياة اليومية، أصبحت رحلاتي تتوزع بين مواعيد القطارات، أتنقل داخل العربة باحثًا عن مقعد يمنحني هدوءًا، أستطيع من خلاله أداء عمل أو إنجاز مهمة، ويتيح لي أيضًا ممارسة «رياضة» الاستماع إلى أحاديث الناس، وتلك التحليلات المنطقية وغير المنطقية للأحداث اليومية.
ففي إحدى رحلاتي اليومية على متن المترو، كنت أجلس في الصف الثاني، حين دخل رجل ستيني إلى العربة في المحطة التالية، يحمل كيسًا بلاستيكيًا صغيرًا، أخذ يتلفت هنا وهناك يبحث عن مكان يجلس فيه، لكن كل المقاعد كانت مشغولة، فتوقف في الممر، وفجأة رفع صوته متسائلًا: «ورا ما يكثرون الكراسي بالعربات؟»
نهض أحد الجالسين في الصف الأول، وقال بصوت مسموع: «تفضل يا عم».
وعقب جلوس الستيني، تشكّر من مضيفه، وما هي إلا ثوانٍ حتى استأنف حديثه عن قلة المقاعد، قائلًا: «عدد الناس بهالدرجة أكثر من المقاعد والمساحات الفاضية».
لعل أحد المستائين كان يبحث عن منتقد، فسارع بالرد: «العربات بالفئات اللي حددها مترو الرياض، وبعض الناس ما تلتزم!»
هنا تسلّل إلى ذهني تساؤل:
كيف يمكن للنظام أن يحافظ على هدوئه، وسط زحامٍ يعلو فيه الصوت أكثر من الحركة؟
تداخل أحد الواقفين بنبرة صوت هادئة وهندام أنيق، وبدا مدافعًا عن الخدمات في المترو، مؤكدًا أن الرقابة تقوم بعملها كما يجب.
لم يعجب الستيني رأي الأنيق الإيجابي عن الرقابة، الذي لم يتردد بالسؤال: «وين المراقبين اللي ما شفناهم، هالعمال راكبين بالدرجة الأولى وين المراقب عنهم؟»
لعل الأنيق لا يحب مخالفة الرأي، أو أن لديه عزة نفس لا تسمح له بـ»التسليك»، حيث تغيّرت ملامح وجهه وردّ بصوت يميل إلى الجدية: «المحطة الجاية بيجي أحد منهم».
لم يترك الستيني الفرصة تمر، فالتفت إلى الناحية الأخرى وهو يتمتم: «نشوف إذا بيجون، ولا بس كلام جرايد».
وبعد دقائق، توقفت العربة في محطة «الورود 2»، فنزل الأنيق بخطوات ثابتة، تاركًا وراءه فراغًا في النقاش وفضولًا معلّقًا في الهواء.
وبمجرد خروجه علّق الستيني: «شكله موظف بالمترو».
عم الصمت ولم يناقشه أحد، وكأن الجميع أرادوا فضّ هذا النقاش.
فتحت أبواب العربة بمحطة أخرى، ودخل مراقب تذاكر وبيده جهاز. ولتأثيره القوي، خرج عدد من الأشخاص في محطة لا تُعد حيوية ولا موقعها تجاريا، لتتضح ملاحظة الستيني، ويُثبت الأنيق ما قاله.
غادرت العربة في محطتي، وعيناي ما زالتا ترسمان تفاصيل المشهد في لحظة عابرة، انفتح باب الحوار على اتساعه، فأصبح المترو مسرحًا لأصوات متقابلة، وحكايات صغيرة لا يلتفت إليها كثيرون.
بعضها يختفي مع صوت الإعلان عن المحطة، وبعضها يظل حاضرًا في الذاكرة، كما ظل صوت الستيني واعتراضه، وهدوء الأنيق الذي غادر تاركًا أثرًا أكبر من خطواته.