د. عبدالحليم موسى
أثار الذكاء الاصطناعي وخوارزمياته أكبر كذبة في التاريخ الإنساني، التي صدقها ملايين الناس، حينما تم عرض حادثة قتل المدربة جيسيكا أمام ناظري الجمهور من حوت الأوركا الذي دربته خلال أعوام عديدة، حيث نسج الذكاء الاصطناعي على جوانب هذه القصة عناصر التشويق والصدق معاً، ما جعل المتلقي يجد نفسه أمام نص يصعب التشكيك فيه، وذلك في زمن تتقاطع فيه الحقيقة مع الوهم، حيث برزت قصة الحوت الذي ابتلع مدربته جيسيكا وكأنها إحدى الأساطير التي أُعيد بعثها في ثوب رقمي جديد. لقد انتشر الخبر كالنار في الهشيم عبر المنصات الاجتماعية، وتناقله الناس بفضول وذهول، كأنهم يلتقطون قطعة نادرة من الموروث الشعبي.
لم تكن سرعة الانتشار ناتجة عن غرابة الحدث فحسب، بل عن حاجة الإنسان المستمرة إلى الدهشة، ذلك الميل الذي يصفه نيتشه بأنه تعبير عن رغبة داخلية إلى كسر رتابة الواقع والبحث عن الاستثناء؛ وما هي إلا لحظات حتى غدت القصة موضوعاً عالمياً، يتداولها الناس وكأنها واقع قائم، إلى أن تكشفت الحقيقة لاحقاً بأن الحادث مجرد حبكة صاغته خوارزميات الذكاء الاصطناعي بإتقان بالغ.
ما بين الخيال والحقيقة لعبت الخوارزميات دور الروائي الخفي الذي يمزج بين الرموز والأساطير القديمة بلغة رقمية حديثة، وهنا تحضرني كلمات كارل يونغ عالم النفس السويسري ومؤسس علم النفس التحليلي؛ حينما تحدث عن اللاوعي الجمعي الذي يخزن الرموز والأساطير القديمة في وجدان البشرية، لتعود إلى الظهور في صور جديدة كلما سنحت الفرصة، فقد استدعت القصة صورة الحوت في المخيلة الإنسانية، ذلك الكائن الذي ارتبط في الأساطير والدين بالابتلاع والاختفاء الوجودي، وهو ما جعل المتلقي يشعر بأن الحدث رغم غرابته مألوف في جذوره النفسية العميقة.
أشار جان بودريار وهو فيلسوف فرنسي وعالم اجتماع اشتهر بتحليلاته المتعلقة بوسائط الاتصال والاتصالات التكنولوجية، واستنباطه مبادئ مثل المحاكاة والواقع المفرط؛ أشار بودريار إلى أن المجتمعات الحديثة لم تعد تستهلك الحقائق، بل الصور، حيث تتحول الرموز إلى بديل عن الواقع نفسه، وهذا ما تجسد في قصة قتل الحوت لمدربته جيسيكا أمام أعين الجماهير، فغلبت الصور الرقمية على كل تفسير عقلاني، وأصبح وقعها على الوعي الجمعي أقوى من أي تكذيب لاحق.. وهكذا وُلدت أسطورة رقمية موت المدربة التي صنعتها الخوارزميات، وأظهر الذكاء الاصطناعي كيف يمكن للوهم أن يتفوق على الحقيقة حين يجد البيئة المهيأة لاستقباله.
القصة لم تكن مجرد إشاعة عابرة، بل مرآة تعكس هشاشة الوعي الإنساني أمام إغراء الحكاية المصطنعة، ولقد برهنت على أن الإنسان، مهما بلغ من عقلانية، يبقى أسيراً لسلطة الخيال، وأن التكنولوجيا لم تفعل سوى إعادة إنتاج الأسطورة في سياق رقمي في عصر خوارزميات تبدل الكذب إلى حقائق، ويفسر أكد إريك فروم هذه الظاهرة التي تجد مساحة في الوجدان والعقل الجمعي الإنساني حينما يواجه الناس عالماً معقداً ومضطرباً يميل إلى الاحتماء بالرموز والقصص التي تمنحه شعوراً بالمعنى والسكون، حتى وإن كان هذا المعنى يحمل دلالات وهم الحقيقة.
إن قصة الحوت لم تُفضِ إلى مجرد ترفيه عابر، بل إلى درس عميق في فهم العلاقة بين الإنسان والآلة، فقد بيّنت أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية، بل قوة رمزية قادرة على إعادة تشكيل المخيلة الجماعية، وهنا تكمن خطورة اللحظة الراهنة؛ إذ لم يعد التحدي قائماً فقط في كشف زيف الأخبار، بل في إدراك كيفية صياغتها، وكيف تتحول بفعل الخوارزميات إلى واقع بديل يترك أثره في النفوس والمجتمعات.
أصبحنا نعيش في زمن لا ينفصل فيه الواقع عن المتخيل، حيث تنسج الخوارزميات قصصاً جديدة تجد طريقها إلى وعينا الجمعي بسهولة، وما بين الحقيقة والكذب، يتشكل عالم رمزي يهيمن على الإعلام والوعي، ويضع الإنسان أمام امتحان دائم إما أن يبقى أسيراً لإغراءات الأساطير الرقمية، أو يسعى إلى وعي نقدي يحرره من سطوة الوهم الرقمي.